بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله الذى توحد بجلال ملكوته، وتفرد بجمال جبروته.
له الصفات المختصة بحقه. والآيات الدالة على أنه غير مشبه بخلقه. فسبحانه
من إله أذهل العقول عن الوصول إلى كُنه ذاته الأبدية. وأدهش الخواطر عن الإحاطة
بجليل صفاته السرمدية. وهو المعرف بالربوبية. والموصوف بالألوهية. من ذاق حلاوة
أنسه رأى من لطفه العجائب. وظفر منه بنيل المَآَرِبِ
. ومن أمّل سواه أبعده وأشقاه (أحمده) حمد عبد غرق في بحار نعمته (وأشكره) شكر عبد
أخلص في طاعته فهام في محبته.
(وأشهد)
أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له. المتعالى عن المشاركة والمشاكلة، شهادة أتخلص
بها من النزغات. وأعلو بها إلى أرقى الدرجات (وأشهد) أن سيدنا محمدا عبده ورسوله
الذى بعثه الله بالبيان. فأظهر دينه القويم على سائر الأديان. اللهم صل وسلم وبارك
على سيدنا محمد إمام الأنبياء، وتاج الأصفياء، المبعوث بالأيات الباهرة، والمعجزات
الفاخرة، إنسان عين الوجود، والسبب في كل موجود، وجازه اللهم عنا أفضل ماجازيت به
نبيا عن أمته، وانفعنا اللهم بما انطوت عليه ضمائرنا، من محبته صلى الله عليه وأله
وأصحابه، وأولاده وأزواجه وأحبابه، صلاة وسلاما لايعتريهما إنصرام، دائمين
متلازمين على ممر الدهور والأيام.
(أما
بعد) فيقول راجي عفو رب العالمين، عبده الفقير (محمد أمين) الكردي المنسوب إلى الحضرة
النقشبندية، أيدها الله تعالى وأقام دولتها الجليلة العلية : مما لايخفى على عاقل،
ولا يعزب عن لبيب كامل، أن أجل العباد قدرا وأعظمهم فضلا، وأرفعهم ذكرا أنفع عباد
الله لعباده، وأدعاهم إلى طريق رشاده، وأجل هؤلاء نفعا، وأحسنهم صنعا، دعاة الخلق
ومرشدوهم إلى الله، وهداتهم إلى سبيله والعمل بما فيه رضاه،كيف لا وذلك دأب أشرف
الأنام والسادة المرسلين الكرام، فقد بعثهم الله بذلك وبه أمرهم، وعليه حرضهم
وحثهم، وعليه تبعهم من تبعهم واقتدى بهم من ورثهم من العلماء العاملين، والأولياء
والصالحين. ومن المعلوم أن المحققين من هذه الطائفة قد انقرض أكثرهم ولم يبق في
زماننا منهم إلا أثرهم كما قيل:
أما
الخيام فـإنها كخيامهم * وأرى نساء الحي غير
نسائها
فقلما تجد من يذكر
بالله، أوينهى عما ينكره الشرع ويأباه لضعف الهمة عن سلوك طريق الهداية، وعكوف
الأفئدة على عبور سبيل الغواية، ولذا ترى ماترى
من تفتيش أكثر الورى، على مانقص من أمر دنياهم، لا على ما نقص من أمور
دينهم وأخراهم، وركونهم إلى إتباع الشهوات، وقلة المبالاة، بتعاطى المحظورات،
وبالجملة فقد طوى بساط التقوى، وارتحل عن القلوب إحترام الشرع الأقوى، وقد عم
البلاء، وغلب الشقاء، حتى صار الكثير لا يعرف ما هو الحق وماهو الإيمان و وما هي
الأخرة وما هو المصير إلى الملك الديان، ومن عرف ذلك طرحه في زوايا الإهمال، واشتغل
بالحظوظ الفانية وتحصيل الشهوات وجمع الاموال وإن دعوا وعملوا فلغايات دنيوية،
وأعراض زائلة واغراض نفسية، والمولى عز وجل يعلم سرهم ونجواهم، وهو معهم أينما
كانوا يسمعهم ويراهم، ألم يعلموا أنهم مبعوثون ليوم الغضب الشديد، الذى يشيب من
هوله الوليد، وأنهم إذ ذاك مسؤلون.
وعلى ماقدموا من
أعمالهم محاسبون (وسنعلمون الذي أي منقلب ينقلبون) ولما طال الإبتلاء فيما نحن فيه
من الأيام، بما لوَّحت ببعضه مما يؤدي إلى ضعف شوكة الإسلام، وكنت ممن أجيز
بالإرشاد، من أولى المفاخر والسداد، بإجازة صحيحة جلية، في الطريقة العلية
النقشبندية قدس الله أسرارهم ونور أضرحتهم، أخذت في الإرشاد عملا بمقتضى إجازتي،
مقتفيا فيه اثار أسلافي وسادتي، فساعدتنى الأقدار الإلهية، وانتشرت طريقتنا بهذه
الديار المصرية غير أني لما عيرت هذه السبيل المشرِّف.
وكان من المحتم على
كل مريد أن يعرف أوّلا ما يجب معرفته على كل مكلف، من أصول الدين وفروعه، ليكون أمنا من الخطأ في ذهابه ورجوعه وضعت للطلاب
كتابا في هذا الباب ووشحته ببعض فوائد من أثار السادة الصوفية الأماجد يتأدب بها المريد الصادق، ويتهذب بها العبد
الأبق، وسميته العهود الوثيقة، من التمسك بالشريعة والحقيقة فجاء بحمد الله
كافيا في هذا الغرض وافيا، مع عذوبة مبانيه، ورقة معانيه، ومذ بدا في طيب نشره
الفائق، وعلا بحسنه في سماء طبعه الرائق، تناولته أيدي القبول، كماهو المرجو
والمأمول، حتى عز على رائديه، وضن به على راغبيه فحاولت الإعادة، رغبة في الثواب
وحبا في الإفادة، بعد أن وسعت بساطه، وقويت رباطه، وشيدت أركانه، وأطلت بنيانه، بذكرمالم يذكر فيه من أبواب الفروع، كالنكاح
والطلاق والفرائض والبيوع، وزيادة فصول أخر، وشواهد مهمة ومسائل غرر، بلا طول ممل،
ولا إختصار مخل، ليكون أبهج للناظرين وأروج للطالبين،حتى تغير نوعيا عن وضعه
المعهود، وصار كالأصل لكتاب العهود، وسميته تنويرالقلوب في معاملة علام الغيوب
وجعلته مرتبا على
مقدمة وثلاثة أقسام على نسق الترتيب الأول.
(فالمقدمة) في الدعوة
إلى الله ورسوله.
(والقسم الأول) فيما
تجب معرفته من أصول الدين.
(والقسم الثاني) في
الأحكام الفرعية على مذهب إمامنا الشافعي رضي الله عنه.
(والقسم الثالث) في
التصوف، وما ينبغى للمريد أن يتخلق به من الأداب ولنشرع الان في المقصود.فأقول وهو
حسبي ونعم الوكيل وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
مقدمة
في
الدعوة إلى الله ورسوله
قال تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و
الموعظة الحسنة و جادلهم بالتى هي أحسن).
وقال
(و من أحسن قولا ممن دعا إلى الله و عمل صالحا و قال إننى من المسلمين).
وقال
(و لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و أولئك هم
المفلحون).
وفي
الأية دليل على وجوب الأمر والنهي. ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة وهو من أعظم واجبات
الشريعة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع
سنامها، وأنهما الفردان الكاملان من الخير الذى أمر الله به عباده بالدعاء إليه.
وقال
صلى الله عليه وسلم: (مَنْ دَعَا إلى هُدًى كَانَ لَه مِنَ اْلأَجْرِ مِثْلُ
أُجُوْرِمَنْ إِتَّبَعَه لاَيَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُوْرِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ
دَعَا إلى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَليَهِ مِنَ اْلإِثْمِ مِثَل آثاَمِ مَنْ تَبِعَهُ
لاَيَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آَثَامِهِمْ شَيْئًا). {رواه مسلم وأبو داود الترمذي
والنساء وابن ماجه}.
ثم
اعلم أن الدعاء إلى الله وإلى سبيله ودينه وطاعته وصف الأنبياء والمرسلين: به
أمرهم الله وأوصاهم، وعلى ذلك اتبعهم واقتدى بهم ورثتهم من العلماء العاملين
والأولياء الصالحين، ولم يزالوا في كل زمان يدعون الناس إلى سبيل الله وطاعته
بأقوالهم وأفعالهم على غاية من التشمير والجد إبتغاء مرضاة الله، وشفقة على عباده
ورغبة في ثوابه واقتداء برسوله، فقد قامت الأنبياء والمرسلون وأتباعهم من أئمة
الحق والهدى، من طوائف الجاهلين والمعرضين من الأذى أمرا عظيما. فصبروا واحتسبوا
ولم يزدهم ذلك إلا حرصا على إرشادهم وهدايتهم إلى سبيل الله تعالى ونصيحتهم في دين الله، فإذا نظر العالم بدين الله المذكر
بأيام الله، الداعي إلى سبيل الله، إلى الجاهلين الغافلين عن الآخرة المقبلين على
الدنيا. لم يسعه إلا أن يبين لهم مايجب عليهم من حق الله، تأسيا برسول الله صلى
الله عليه وسلم كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُوْلِ اللهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوْ اللهَ وَاليَومَ الأخِرَ وَذَكَرَ اللهَ
كَثِيْرًا).
فعلى
الدعاة إلى الله تعالى والعلماء بدينه أن يكونوا على نهاية من الصبر والإحتمال،
وسعة الصدور، ولين الجانب وحسن التأليف، وقد غلب الجهل واستولى على أهل هذا الزمان،
وذهب بهم كل مذهب حتى صار الكثير منهم لا يعلم ولا يدري بالحق والدين ماهو، تساهلا
وتشاغلا بأمور الدنيا، واستغراقا في جمعها، والتمتع بشهواتها وفي مثل هؤلاء يقول الله
تعالى: (يَََََعْلمون ظاهرا من الحياة اٍلدنيا
وهم عن الأخرة هم غافلون) فصارت تلك بلية عظيمة عم ضررها الجاهل والعالم، والعام والخاص.
فأما
ضرر الجاهل بها فلأنه قد فرّط فيما فرضه الله عليه من معرفة دينه، وتعلم أحكامه، ولا
شك أن إهمال ذلك من المصائب الدينية التى تجلب المصائب الدنيوية والأخروية.
وأماضرر
العالم بها فلتقصيره في الدعاء إلى سبيل الله، وتعليمه الناس مايجهلونه من أحكام دينهم
مع مشاهدة تلبسهم بارتكاب المنهيات وترك المأمورات بلا مانع يمنعه من ردعهم وردهم إلى
الحق وتعليمهم ما هو من الدين وما ليس منه كما هو شأن العلماء، أخذا من عموم وجوب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن
صريح قوله صلى الله عليه وسلم ٍٍ(ويل للعالم من الجاهل حيث لا يعلّمه) رواه أحمد. فلولا
أن تعليم الجاهل واجب على العالم ماكان الويل له في السكوت عنه، وفي ترك تعليمه. والله
تعالى لايؤاخذ بترك التطوع، وإنما يؤاخذ بترك الفرائض. وليس هذا خاصا بالمتبحرين في
العلوم كما قد يتوهم، بل هو عام يشمل مَنْ عَلِمَ مسألة واحدة من مسائل الدين.
قال
الله تعالى: (لُعِنَ الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لايتناهون عن
منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) فكان إستحقاقهم اللعنة بتركهم النهي عن المنكر.
قال
الله تعالى (فلولا كان من القُرُون مِنْْ قَبلِكم
أولو بَقِيَّةٍ يَنْهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم). فبين أنه أهلك
جميعهم إلا قليلا منهم كانوا ينهون عن الفساد.
قال
تعالى (فلما نسوا ماذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخَذْنا الذين ظلموا بعذاب
بئيس بما كانوا يفسقون).
وروى
مرفوعا وموقوفا (من أمر بالمعروف ونهى عن المنكرفهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله
وخليفة كتابه) وقال: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم
يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) {رواه مسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي}.
فالتغيير
باليد فعل الولاة ومن في حكمهم، وباللسان فعل العلماء، وبالقلب فعل ضعفاء العامة. وقال
عليه الصلاة والسلام: (الخطيئة إذا خفيت لاتضر إلا صاحبهاٍٍ، وإذا ظهرت فلم تغير ضرَّت
العامةَ) رواه الطبراني في الأوسط أي لتركهم ما لزمهم وما وجب عليهم من التغيير والإنكار
على من ظهرت منه الخطيئة.
وقال
(لتأمرن بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شِراركم فيدعوا خياركم
فلا يستجاب لهم) {رواه البزار والطبراني} لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي هذا
الحديث تهديد بليغ لتارك الإنكار وأن عذابه لا يدفع، ودعاؤه لا يسمع.
وقال
(إن القوم إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بعقاب) رواه أبو داود والترمذي وابن
ماجه والنساء واللفظ له.
وعن
ابن عباس رضي الله عنهما قيل: يارسول الله أتهلك القرية وفيها الصالحون؟ قال: "نعم"
قيل: بم يارسول الله؟ قال بتهاونهم وسكوتهم على معاصي الله.
واعلم
أنه كما يجب على الإنسان أن ينهى غيره عن المنكر يجب عليه أن ينهى نفسه عنه بالأولى،
ولايكون كرجل ترى تحت ثوبه حيات وعقارب أقبلت عليه لتهلكه، فأخذ المروحة ليدفع الذباب
عن وجه غيره. وإنما يؤثر نهيه إذا كان غير مرتكب له وقد أوحى الله تعالى إلى عيسى ابن
مريم عليه السلام: {عظ نفسك فإن إتعظت فعظ
الناس وإلا فاستح مني} وقيل إذا جلس الإنسان يعظ الخلق ناداه ملك: عظ نفسك بما تعظ
به أخاك وإلا فاستح من سيدك فإنه يراك، {فعظ الناس ياأخي بصفاء سرك وتقوي قلبك. ولا
تعظهم بتحسين علانيتك مع قبح سريرتك فحيث صار التنوير وصل التعبير والكلام إذا خرج
من القلب وقع في القلب فيفيد إما خوفا مزعجا أوشوقا مقلقا، وإذا خرج من اللسان كان
حده الأذان. واعلم أنه لا يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن المرتكب لمانهي
عنه. حتى قالوا: على شارب الكاس أن ينكر على الجلاس}.
القسم الأول
فيما
تجب معرفته على كل مكلف من العقائد الدينية
هذا
القسم مرتب على مقدمة وثلاث أبواب وخاتمة، فالمقدمة في بيان أقسام الحكم العقلي وبيان
الصفة وبعض تقسيماتها، والباب الأول في الإلهيات،
والباب الثاني في النبوات، والباب الثالث في السمعيات، والخاتمة في معنى الإيمان والإسلام
وقواعده والدين وغيرذلك.
المقدمة
في بيان الحكم العقلي
اعلم أن الحكم العقلي، وهو إثبات أمر
لأمر أونفيه عنه من غير توقف على تكرار ولاوضع ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وهي الوجوب،
والإستحالة، والجواز أو الإمكان.
فالواجب هو الذى لا يصدّق العقل
بانتفائه، كوجود مولانا تعالى وقدمه وبقائه.
والمستحيل هو الذى لا ُيصَدِّق العقل
بثبوته كوجود شريك له تعالى.
والجائز او الممكن هو ما يصح في
العقل ثبوته أوانتفاؤه، كوجود السموات
والأرضين وبعثة الرسل وإنزال الكتب، وإثابة العاصي وتعذيب المطيع.
(واعلم) أن الصفة وهي الأمر الثابت
للموصوف تنقسم إلى سبعة أقسام.
1.
(نفسية)
وهي التى لا يعقل الموصوف بدونها كالوجود.
2.
(وسلبية)
وهي سلب أمر لا يليق بالموصوف كالقدم.
3.
(ومعنى) وهي صفة وجودية توجب لموصوفها حكما كالقدرة.
4.
(ومعنوية) وهي صفة ثبوتية إعتبارية لازمة للمعنى ككونه قادرا.
5.
(وفعلية) وهي تعلق القدرة والإرادة كالخلق والرزق.
6.
(وجامعة) لسائر الصفات كالجلال والعظمة والكبرياء.
7.
(وسمعية) وهي عبارة عن معنى ورد به السمع أعنى الكتاب والسنة
المتواترة.
وتنقسم الصفة أيضا إلى قسمين متعلقة
وغير متعلقة: فالمتعلقة هي التى تقتضي أمرا زائدا على القيام بمحلها كالقدرة
والإرادة فالقدرة تقتضي مقدورا عليه، والإرادة تقتضي مرادا. وغير المتعلقة عكسها
كالحياة وإذا عرفت ذلك فنقول :
الباب
الاول
في الإلهيات
وهي المسائل التى يبحث فيها عما يتعلق بالإله
يجب
على كل مكلف أن يعرف الواجب والمستحيل، والجائز في حق مولانا تعالى.
والمكلف
هو البالغ العاقل سليم الحواس والسمع أوالبصر الذى بلغته دعوة النبي صلى الله عليه
وسلم ذكرا كان أو أنثي حراّ أوعبدا أو إنسيا أو جنيا، لكن الجن مكلفون من حين
الخلقة كآدم وحواء.
والمعرفة
هي الجزم المطابق للواقع عن دليل، فيجب علينا معاشر البلغ العقلاء أن نعرف ما يجب
له تعالى وما يستحيل وما يجوز عليه إجمالا وتفصيلا، فالإجمال أن نعتقد أن الله
تعالى متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص، وجائز عليه فعل كل ممكن أوتركه، والتفصيل أن
نعرف من ذلك ما دل عليه دليل بعينه.
(فالواجب)
له تعالى عشرون صفة بمعنى أنه لا يدخل في عقل عاقل عدم اتصافه تعالى بها ولا يسلمه
لما يلزم عليه من المحالات والأباطيل.
(والمستحيل)
عليه تعالى عشرون صفة أيضا، وهي أضداد العشرين الواجبة له تعالى.
الصفة
الواجبة له تعالى
فأما
الواجبة له تعالى فهي الوجود والقدم والبقاء ومخالفة للحوادث وقيامه بنفسه
والوحدانية والقدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام، وكونه قادرا
وكونه مريدا وكونه عالما وكونه حيا وكونه سميعا وكونه بصيرا وكونه متكلما.
وأما
أضدادها العشرون
الصفة
المستحيلة عليه تعالى
الصفة
المستحيلة عليه تعالى فهي العدم والحدوث والفناء والمماثلة لشئ من الحوادث،
واحتياجه إلى محل أومخصص، والتعدد والعجز عن ممكن ما والكراهة والجهل والموت
والصمم والعمى والبكم وكونه عاجزا وكونه كارها وكونه جاهلا وكونه ميتا وكونه أصم
وكونه أعمى وكونه أبكم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
فأما
الوجود
فهو ثبوت الشئ وتحققه بحيث يصح أن يرى، والوجود واجب له تعالى لذاته أزلا وأبدا.
وضدّه
(العدم) والدليل على وجوب وجوده تعالى، واستحالة العدم عليه:
(عقلا)
وجود هذه المخلوقات، وذلك أنك إذا نظرت إلى هذا العالم تراه متغيرا من عدم إلى وجود،
ومن وجود إلى عدم، ومن حركة إلى سكون، ومن سكون إلى حركة متنوعا بأنواع مختلفة،
وضروب متباينة، فبعضه أبيض وبعضه أسود وبعضه أحمر إلى غير ذلك، وبعضه في جهة دون
جهة. وبعضه في مكان دون مكان وبعضه في
زمان دون زمان. وبعضه على مقدار دون مقدار. وبعضه علوى وبعضه سفلى. وبعضه ظلماني
وبعضه نوراني. وبعضه لطيف وبعضه
كثيف إلى غير ذلك من الأنواع، كل ذلك مما يدل على أن هذه العالم حادث. (اي
موجود بعد عدم) والحادث لا يكون إلا ممكنا لأن ذلك كله يستدعى فاعلا مختارا واجب
الوجود يرجح الوجود على العدم والحركة على السكون والعكس، ويرجح المقدار المخصوص
والجهة المخصوصة والزمن المخصوص والمكان المخصوص والصفة المخصوصة على مايقابلها، فلولم
يجب له تعالى الوجود لما وجد شئ من هذا العالم إذلا يتصورالعقل وجود شئ حادث بدون
صانع واجب الوجود ولولا الفاعل المخصص لوجوده فيما شاء من الأزمنة والأمكنة
والجهات على ماشاء من المقادر والصفات لكان يجب أن يبقى على ما كان عليه من العدم
أبد الأبد، والدليل عليه:
(نقلا)
قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الذى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ) وقوله
تعالى (أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون).
وأما
القدم
الواجب له تعالى فمعناه عدم إفتتاح الوجود اي أنه ليس لوجود ذاته تعالى ولالوجود
صفاته الذاتية إفتتاح.
وضده
(الحدوث) أي إفتتاح الوجود، والدليل على وجوب القدم له تعالى ولصفاته
واستحالة الحدوث:
(عقلا) أنه لو لم يكن قديما لكان حادثا فلا بد له من
محدث، وهكذا فيدور الأمر أويتسلسل، وذلك باطل. أويقال : إذا ثبت حدوث العالم وأنه
لا بد له من محدث فلا يكون المحدث مستحيلا بداهة، ولا جائزا لأنه لايملك الوجود
لنفسه فلا يفيضه على غيره فتعين أن يكون واجب الوجود وهو معنى القدم. {ولو
لم تكن}. صفاته تعالى قديمة لكانت حادثة وحدوثها باطل لما يلزم عليه من حدوث ذاته
تعالى لأن كل ما لاتتحقق ذاته بدون الحادث فهو حادث، وقد سبق قدمه تعالى، ودليل ذلك
:
(نقلا)
قوله تعالى: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ) وقوله تعالى: (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ
لا إلهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَئٍ فَاعْبُدُوهُ).
وأما
البقاء
فمعناه عدم اختتام الوجود أي أنه ليس لوجود ذاته ولا لوجود صفاته إختتام وانتهاء.
وضده
(الفناء) اي إختتام الوجود. والدليل على وجوب البقاء له ولصفاته واستحالة
ضده:
(عقلا)
أنه لو قبل الفناء لكان حادثا لأن القديم
واجب الوجود لا يقبل الفناء أصلا، ولوقبلت صفاته الفناء لكانت حادثة أيضا، ويلزم
منه حدوث ذاته أيضا لأن ملازم الحادث حادث، وقد ثبت أنه قديم.
(ونقلا)
قوله تعالى: (هُوَ الأَوَّلُ وَالأَخِرُ) وقوله تعالى: (كلُّ شَئٍ هَالِكٌ إِلاَّ
وَجْهَهُ).
وأما
المخالفة للحوادث فمعناها أنه تعالى ليس مماثلا لشئ من
الحوادث في الحدوث ولوازمه في ذاته ولافي صفاته ولافي أفعاله، فليس جسما وليس
قائما بجسم أو محاذيا له، وليس فوق شئ ولا تحته ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن
يساره ولايوصف بحركة ولا سكون وليس بذي أجزاء فليس له يد ولا عين ولاأذن ولاغيرذلك
مما هو من سمات الحدوث.
{وما
ورد من ذلك ونحوه في الكتاب أوالسنة فمصروف عن ظاهره الذى يتبادر إلى العامة} وليس
علمه تعالى مكتسبا عن دليل أوناشئا عن ضرورة ولايطرأ عليه سهو أوغفلة أو جهل
كعلمنا وليست قدرته محتاجة إلى ألة أو معاونة، وليست إرادته لغرض من الأغراض وليست
حياته بروح كحياتنا وليس سمعه وبصره وكلامه بجارحة أومقابلة للمبصرات، وليس كلامه
بصوت ولاحرف عارض للصوت. ولا يطرأعليه السكوت، وليس أفعاله تعالى بجارحة ولا
بممازجة لشئ من الأشياء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وضد
المخالفة للحوادث (مماثلته لشئ منها) في شئ مما ذكر والدليل عليها :
(عقلا)
أنه لو ماثل شيئا من الحوادث في ذاته أوصفاته أوفي أفعاله لكان حادثا مثله، وهو
باطل.
(ونقلا)
قوله تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
(وأما
قيامه بنفسه) فمعناه أنه لايفتقر إلى محل أي ذات
يقوم بها، ولامرجّح يرجح وجوده على عدمه مثلا وضده (إحتياجه) إلى ذات أومرجح
والدليل عليهما :
(عقلا)
أنه لوإحتاج إلى محل لكان صفة، والصفة لاتتصف بالصفات وقدثبت أنه يوصف بالقدرة
والإرادة وغيرهما، ولو كان محتاجا إلى مرجح لكان حادثا، وهو باطل بدليل قدمه تعالى
:
(ونقلا)
قوله تعالى: إن الله لغني عن العالمين وقوله تعالى: يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله
والله هو الغني الحميد وكما أنه تعالى غني عن المحل والمرجح كذلك هو غني عن جميع
وجوه الإنتفاع، وجميع الأغراض في أفعاله وأحكامه، نعم تنبني عليها حكم ومصالح ترجع
إلى منفعة الخلق تفضلا وإحسانا منه لا إليه تعالى، فلاتنفعه طاعتنا، ولا تضره
معصيتنا، وإنما أمر نا ونهانا لما يعود عليناعلى أنه هو الغني عن أن يصل اليه
النفع منه، فكيف لا يكون غنيا عنا. وشواهد ذلك من الكتاب والسنة كثيرة، قال تعالى:
(من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها)، وقال تعالى: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم
وإن أسأتم فلها) وقال تعالى: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه) إلى غيرذلك، ومن الأدلة
العقلية في ذلك أنه لو إنتفع بطاعة عبيده لما خلق فيهم سواها، وإلا لكان عاجزا عن
دفع مايضره وهو محال، والحاصل أنه غني عن جميع وجوه الإنتفاع عن جميع ما سواه، وهو
يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
(وأما
الوحدانية)
فمعناها عدم التعدد، وهي ثلاثة أقسام:
1. (وحدانية
في الذات) بمعنى أن ذاته تعالى ليست.
مركبة من جزأين فأكثر،
وليس له نظير في ذاته تعالى.
2. (ووحدانية
في الصفات) بمعنى أنه تعالى ليس له صفتان فأكثر من جنس واحد كقدرتين وإرادتين
وعلمين، وليس لغيره صفات كصفاته تعالى.
3. (ووحدانية في
الأفعال) بمعنى أنه هو الخالق بالإختيار لكل ممكن يبرز إلى الوجود ذاتا كان أوصفة
أوفعلا، قال تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) لا يشاركه في ذلك شيء ما، فالشمس
والقمر والكواكب والماء والتراب والهواء والنار لا تأثير لها في شيء مما قارنها.
ولا تأثير للطعام في الشبع ولا للسكين في القطع ونحو ذلك.
ومن
هذا القبيل الأفعال الإختيارية فإنها مخلوقة لله تعالى لا للعبد، أوجدها الله
سبحانه بقدرته عند مقارنة قدرة العبد لها لا بقدرة العبد، فليس للعبد فيها تأثير
وإنما له الكسب، وهو مقارنة القدرة الحادثة ومصاحبتها للمقدور عند القصد اليه،
فيخلق الله تعالى الفعل عند ذلك كما جرت العادة بإيجاده تعالى المسبب عند وجود
السبب فيتراءى بحسب الظاهر أنه الفاعل كما يتراءى بحسب الظاهر أن النار هي المحرقة،
وحينئذ فالثواب بمحض فضله تعالى والعقاب بمحض عدله لايسأل ربنا ونحن المسؤلون لأنه
إنما يتصرف في ملكه، إذا علمت هذا علمت أن الأفعال الإختيارية إنما هي أمارات
شرعية على الثواب والعقاب يخلقها الله تعالى في عباده للدلالة على ماأراده لهم في
الأخرة، فكل عبد ميسر بفعله تعالى لما خلق له. (فإن قيل): إذاكان هوالخالق لأفعال العباد لزم أنه هو القائم والقاعد
والأكل والشارب إلى غير ذلك من المفاسد، قلنا: هذا من الجهل والغباوة لأن المتصف
بالشيء هو من قام به الشيء لا من أوجده، ألا ترى أنه خالق للبياض والسواد وغيرهما
قطعا، ومع ذلك لايتصف بأنه أبيض ولا أسود.
وضد
الوحدانية هو (التعدد) في شئ مماذكر. أما الدليل عدم التركيب في الذات فإنه
يؤخذ من وجوب مخالفته للحوادث، إذلوكانت ذاته مركبة لكان مماثلا للحوادث، فيحتاج
إلى من يركبه فيكون حادثا وهو محال.
وأما
(دليل العقل) علي وحدانية صفاته بمعنى أنه ليس صفتان فأكثر من جنس واحد، فلأنها
لوتعددت لكانت حادثة، وقد سبق وجوب قدمها.
وأما
دليل الوحدانية في الذات وفي الصفات بمعنى أنه ليس له نظير في ذاته وليس لغيره
صفات كصفاته. وفي الأفعال بمعنى أنه ليس لغيره خلق فعل من الافعال، فلأنه يلزم على
التعدد الشركة وهي عيب ونقص لاستلزامها
لعجز.
والفردانية
و التوحد صفة كمال، ولا شك أنه كلما كان الملك أعظم كانت النفرة من الشركة أشد،
فما بالك بملك الله وملكوته الذى إقتضت ألوهيته
الغلبة المطلقة، فلو فرض أن هناك إلهين وأراد أحدهما إستخلاص الملك لنفسه،
فإن قدر عليه كان المغلوب عاجزا فقيرا فلا يكون إلها وإن لم يقدر عليه كان عاجزا
كارها فلايكون إلها. ويكون الثاني هو الإله.
ومن
الأدلة (النقلية) على وحدانيته تعالى قوله تعال: (وإلهكم أله واحد) وقوله تعالى :
( لَوْ كَانَ فِيهَا أَلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتاَ). وقوله تعالى :( مَا
اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَاكَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُل
إلهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلىَ بَعْضٍ ) وقد أجمعت الرسل والكتب
الإلهية جميعا على وجوب وحدانيته تعالى. قال الله تعالى : ( واسئل من أرسلنا من
قبلك من رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا من دون الرحمن ألهة يُعْبَدُوْنَ). وقال تعالى (
وماأرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي اليه أنه لاإله إلا أنا فاعبدون).
فجملة
ما تقدم من الصفات ست :
الأولى:
نفسية وهي الوجود، والخمسة بعدها سلبية لأنها دلت على سلب أمور لا تليق بالباري
سبحانه، فالقدم معناه سلب الحدوث والبقاء سلب الفناء، والمخالفة للحوادث سلب
المماثلة لها والقيام بالنفس سلب الإفتقار إلى المحل والفاعل، والوحدانية سلب
التعدد في الذات وفي الصفات وفي الأفعال.
(وأما
القدرة)
فهي صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى يتأتى بها إيجاد كل ممكن وإعدامه على وفق
الإرادة، سواء كان ذلك الممكن كليا أو جزئيا جسما أو عرضا ويشمل ذلك ماله سبب
كأفعالنا الإختيارية من حركات وسكنات عند وجود السبب وهو تعلق القدرة الحادثة بالمقدور
على وجه المصاحبة، وكالإحراق عند مماسَّة النار والشبع عند الأكل، والري عند الشرب،
ويشمل أيضا مالاسبب له كالسموات والأرض، فلا تأثير لغيره تعالى في شئ ما كان،
كماتقدم، وإنما قلنا يتأتى بها ولم نقل لها إشارة إلى أن التأثير للذات لاللقدرة.
ومن أسنده إلى القدرة حقيقا فقد كفر. فقول بعض العامة : القدرة فعالة وانظر فعل القدرة إن كان ناشئا عن إعتقاد
وقصد فهو كفر لما فيه من الإشراك كما يكفر من إعتقد أن النار هي المحرقة حقيقة وأن
الخبز هو المشبع، والسكين هي القاطعة مثلا وإلا فلا يكفر. فالواجب أن نعتقد أن لله
تعالى قدرة عامة التعلق بجميع الممكنات.
وضدها
(العجز) عن ممكن ما، والدليل على وجوب اتصافه تعالى بالقدرة وعلى أنها
تتعلق بجميع الممكنات.
(عقلا)
أن هذا العالم كله حادث أي مسبوق بالعدم كما وضحناه سابقا، وكل حادث لابد له من
صانع ضرورة ولابد للصانع من قدرة يتأتى بها إيجاده وإعدامه إذ لايتأتى تأثير بدون
قدرة، فلو لم يكن قادرا لكان عاجزا ولو كان عاجزا لما وجد شئ من هذا العالم فلزم
إتصافه تعالى بالقدرة، وأنه لو تعلقت قدرته تعالى ببعض الممكنات دون بعض لكانت
حادثة لاحتياجها إلى مخصص كيف وقد تقدم أنها قديمة وإلا لزم الترجيح بلا مرجح وهو
باطل.
(ونقلا)
قوله تعالى : (إن الله على كل شئ قدير): وقوله تعالى (وما كان الله ليعجزه من شئ
في السموات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا) وقوله تعالى : (هل من خالق غير
الله) وقوله تعالى (إنا كل شئ خلقناه بقدر)، وكذلك إجماع الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام. وبالجملة فالكل مستند اليه تعالى إبتداء من غير واسطة على وجه الإختيار
عقلا ونقلا و إجماعا.
(وأما
الإرادة)
فهي صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى يتأتى بها تخصيص الممكن ببعض ما يجوز عليه
دون بعض من الممكنات المتقابلات على وفق علمه تعالى. فكل ما علم أنه يكون أولا
يكون فذلك مراده جل وعلا فلا يقع في ملكه تعالى إلا ما أراده، وقولنا (بها) إشارة
إلى أن التخصيص للذات بها لا لها.
والمتقابلات
ستة : وهي الوجود والعدم والمقادير والصفات والأزمنة والأمكنة والجهات.
فالممكن
يقبل كل واحد منها قبولا مساويا لقبول ما يقابله، وليس أحد المتقابلين أولى
بالقبول من الآخر فهو سبحانه وتعالى يخصص الممكن بالوجود بدلا عن مقابله وهو العدم
أو بالعدم بدلا عن مقابله وهو الوجود، وليس الممكن أولى بقبول أحدهما منه بقبول الآخر
ويخصصه بالمقدار المخصوص في الطول والقصر والتوسط بينهما بدلا عن سائر المقادير
التى يقبلها الجرم على السواء ويخصصه بصفة مخصوصة بدلا عن مقابلتها، كالسواد بدلا
عن الحمرة أو البياض مثلا وكالحركة بدلا عن السكون، والعلم بدلا عن الجهل وغير ذلك
من الصفات المخصوصة التى يقبلها الجرم ويقبل ما يقابلها على السواء. ويخصصه
بالوجود في زمان كذا بدلا عن مقابله مما قبله أوبعده. بان يوجده في ساعة كذا من
يوم كذا في شهر كذا من سنة كذا بدلا عن الزمان المتقدم والمتأخر، ويخصصه بالوجود
في مكان كذا بدلا عن مقابله كوجوده ببولاق بدلا عن وجوده بالعراق، ويخصصه بالوجود
في جهة كذا بدلا عن مقابلها كوجوده في المشرق بدل المغرب فيجب أن نعتقد أن الله
تعالى إرادة عامة التعلق بجميع الممكنات.
وضدها
(الكراهة) والدليل على وجوب إتصافه تعالى بالإرادة وأنها عامة التعلق بجميع
الممكنات واستحالة الكراهة عليه.
(عقلا)
أنه لولم يكن مريدا لكان مكرها والكراهة نقص في حقه تعالى والإرادة كمال له والنقص
في حقه تعالى محال، وأيضا لولم يكن مريدا مختارا لكان مقهورا مجبورا. فلا يكون
قادرا. كيف وقد سبق البرهان على وجوب اتصافه تعالى بالقدرة وأنها عامة التعلق
بجميع الممكنات أيضا، فقد خصص الحوادث ببعض الطرفين الجائزين على السواء، وكل
مخصِّص لابد أن يكون مريدا مختارا ولو تعلقت ببعض الممكنات دون بعض لكانت حادثة.
لافتقارها إلى مخصص يخصصها بالبعض وقد تقدم دليل وجوب قدم صفاته تعالى وإلا لزم
الترجيح بلا مرجح وهو باطل.
(ونقلا)
قوله تعالى: (ولوشاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا)، وقوله تعالى : ( إنما
قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون)، ولا فرق بين المشيئة والإرادة. واعلم
أن القدرة والإرادة لا تتعلقان بالواجب ولابالمستحيل بل لاتتعلقان إلا بالممكنات
وبيان ذلك مما يطول به بالمقام، وبالجملة فيجب أن نذعن ونقر بأن كل ما برز في ملك
الله من العدم إلى الوجود فهو مخلوق مقدور لله تعالى وحده على وفق ماأراده الله
تعالى أزلا فماشاء الله كان ومالم يشأ لم يكن وهو ولي التوفيق.
(وأما
العلم)
فهو صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى تتعلق بالشئ على وجه الإحاطة به على ماهو
به دون سبق خفاء، والمراد بالشئ مايشمل الواجبات والمستحيلات والجائزات كلياتها
وجزئياتها إجمالا وتفصيلا فيعلم تعالى بعلمه القديم ذاته وصفاته ويعلم عدم
المستحيل كحدوثه تعالى وعجزه ووجود شريك له تعالى ويعلم الأشياء أزلا على ماهي
عليه، وكونها وجدت في الماضي أو موجودة في الحال أو توجد في الإستقبال.
وضد
العلم (الجهل) ومافي معناه بمعلوم ماكالظن والشك والوهم والذهول والغفلة
والنسيان والسهو.
(والدليل)
على وجوب إتصافه تعالى بالعلم واستحالة الجهل عليه أن الجهل صفة نقص في حقه تعالى
والنقص في حقه تعالى محال يجب تنزيهه عنه فلزم إتصافه تعالى بصفات الكمال. ومنها
العلم وايضا فان نشاهد العالم على نمط بديع نظام محكم مع ما يشتمل عليه من الافعال
المتقنة والاشكال المستحسنة، وما في ذلك من دقائق الصنع والحكم والمنافع والمحاسن
التى تعجز العقول عن الإحاطة بأسرارها، وكل ماهو كذلك لايكون إلا من صانع عالم
حكيم بحكم الضرورة . كما أنا إذا رأينا خطوطا مليحة أوسمعنا الفاظا فصيحة تنبئ عن
معان دقيقة وأغراض صحيحة علمنا قطعا أن فاعلها عالم. فكذلك إذا نظر الإنسان في الآفاق
والأنفس. وتأمل إرتباط العلوات والسفليات. سيما إذا تفكر في الحيوانات وما هديت
اليه في صنع مساكنها واصطياد أرزاقها من الجبال، وفي إعطائها الألات المناسبة لها،
فلا شك أنه يجزم بكون صانعها عالما حكيما.
(واعلم)
أن العلم عام التعلق لجميع المعلومات وليس مختصا ببعض دون بعض وإلا لزم الجهل
والترجيح بلا مرجح. وكلاهما باطل.
والشواهد
(النقلي) علي وجوب اتصافه تعالى به من الكتب والسنة لاتحصى كقوله تعالى: (إن الله
تعالى بكل شئ عليم)، وقوله تعالى (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، وقوله
تعالى ( يعلم مافي السموات والأرض ويعلم
ماتسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور)، وكذلك إجماع الرسل صلوات الله
وسلامه عليهم أجمعين قال الله تعالى (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا
لاعلم لنا إنك أنت علام الغيوب). اي يوم القيامة يقول الله تعالى للرسل ماذا
أجبتكم أممكم، وما الذى رد عليكم قومكم به حين دعوتموهم في دار الدنيا إلى توحيدي
وطاعتي؟ قالوا اي الرسل لاعلم لنا كعلمك فيهم إنك أنت علام الغيوب لأنك تعلم ما
أضمروا وماأظهروا ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا و أبلغ.
(وأما
الحياة) الواجبة
تعالى له تعالى صفة وجودية قديمة قائمة بذاته جل وعز تصحح لمن قامت به أن يتصف
بالقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والكلام وهي لا تتعلق بشئ.
وضدها
(الموت) والدليل عليها:
(عقلا)
أن الحياة صفة كمال والموت صفة نقص وهو سبحانه وتعالى منزه عن جميع النقائص وواجب
له الكمال، فلزم إتصافه تعالى بالحياة.
وأيضا لو لم يتصف بالحياة لما صح اتصافه تعالى بالقدرة وغيرها من باقي
الصفات وقدثب وجوب اتصافه تعالى بها.
(ونقلا)
قوله تعالى (هو الحي لا إله إلا هو) وقوله تعالى (وتوكل على الحي الذى لايموت)
ونحوذلك. وكذا إجماع الأنبياء بل جميع العقلاء على وجوب اتصافه تعالى بالحياة.
(وأما
السمع)
فهو صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى تتعلق بكل موجود على ما هو به على وجه
الإحاطة تعلقا يغاير تعلق العلم والبصر فليس تعلقه بالموجودات هو عين تعلق العلم
بها كما هو معلوم فيما نشاهده من الخلق ضرورة، نعم يجب أن نعلم أن علمه يستحيل
عليه الخفاء بجميع الوجوه فليس الأمر كما نعهده من كون الوضوح بالبصر أكثر من
الوضوح بالعلم لأن جميع صفاته تعالى تامة كاملة، مستحيل عليها الخفاء والنقص
والزيادة وإلا أشبهت صفات الحوادث فيلزم أن تكون حادثة ويلزم حدوثه، وذلك باطل كما
تقدم بيانه وقولنا تتعلق بكل موجود أي سواء كان قديما او حادثا وسواء كان ذاتا أو
صفة فلا يختص سمعه تعالى بالأصوات.
وأما
إختصاص سمعنا بها فإنما هو أمر عادي يجوز أن يتخلف كما وقع لحضرة نبينا محمد صلى
الله عليه وسلم فإنما سمع كلامه تعالى القديم ولاشك أنه ليس بصوت، وضده (الصمم)
والدليل على وجوب اتصافه تعالى بالسمع واستحالة ضده عليه.
(عقلا)
أن كل حي لابد أن يكون قابلا لاتصافه بأحدهما السمع وضده، واتصافه بضده نقص في حقه
تعالى فيلزم اتصافه بالسمع لأنه كمال في حقه تعالى.
(ونقلا)
قوله تعالى: (وهو السميع البصير) وقوله تعالى : (إنني معكما أسمع وأرى)، وقوله
تعالى (لِمَ تَعْبُدُ مَالاَ يَسْمَعُ وَلاَيُبْصِرُ) ونحو ذلك، وقوله صلى الله
عليه وسلم في الصحيح : (إربعوا على أنفسكم فإنكم لاتدعون أصم ولاغائبا وإنما تدعون
سميعا بصيرا) {رواه البخاري}
وقد
إنعقد إجماع العقلاء على وجوب اتصافه تعالى بالسمع والبصر.
(وأما
البصر)
فهو صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى تتعلق بكل موجود على ماهوبه تعلقا غير
تعلق العلم والسمع فهو تعالى يبصر جميع الموجودات قديمة كانت أو حادثة ذوات أوصفات.
وضده
(العمى) ودليلها عقلا ونقلا ماتقدم في السمع فلا حاجة إلى إعادته.
(وأما
الكلام)
فهو صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى تتعلق بالواجبات والجائزات والمستحيلات
تعلق دلالة وقد سبق أنه تعالى مخالف للحوادث في ذاته وصفاته وأفعاله فليس كلامه
تعالى بحرف ولاصوت ولايوصف بتقديم ولا تأخير ولايطرأ عليه سكوت ولا آفة تمنع منه
كما في حال الطفولة والخرس ولاغيرذلك من صفات الحوادث وإلا كان حادثا كصفاتنا. وقد
سبق وجوب قدم ذاته وصفاته تعالى.
(واعلم)
أن كلامه تعالى صفة واحدة كسائر صفاته تعالى كما تقدم بيانه في الوحدانية إلا أنها
تتنوع باعتبار تعلقاتها إلى أنواع لأنها إن تعلقت بطلب فعل الصلاة وإيتاء الزكاة
مثلا كانت أمرا كما في قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة)، وإن تعلقت
بطلب ترك الزنا وقتل النفس بغير حق، والغيبة مثلا كانت نهيا كما في قوله تعالى
(ولا تقربوا الزنا) وقوله تعالى (وَلاَ تَقْتُلُوْا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ
اللهُ إِلا بِالْحَقِّ ) وقوله تعالى ( ولا يغتب بعضكم بعضا)، وإن تعقلت بنحو أن
موسى عليه السلام فعل كذا كانت خبرا كما في قوله تعالى : ( فألقى عصاه فإذا هي
ثعبان مبين)، وإن تعلقت بأن الطائع له الجنة مثلا كما في قوله تعالى : وجنة عرضها
السموات والأرض أعدت للمتقين ) كانت وعدا، وإن تعلقت بأن العاصي له النار مثلا
كانت وعيدا كما في قوله تعالى : ( واتقوا النار التى أعدت للكافرين ) إلى غير ذلك
من الأنواع.
وضده
(البكم) ودليله :
(عقلا)
أن البكم نقص يستحيل عليه تعالى إتصافه به فلزم اتصافه بالكلام الذى هو صفة كمال
له تعالى.
(ونقلا)
قوله تعالى (وكلم الله موسى تكليما) وقد تواتر النقل عن الأنبياء والمرسلين صلوات
الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد إنعقد إجماعهم وإجماع المرسلين جميعهم على أنه
تعالى متكلم.
(تنبيهات)
:
الأول
: هذه الصفات السبع التى هي القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام
تسمى صفات معان لأنها موجودة في نفسها بحيث لو أزيل عنا الحجاب لرأيناها. وقد تقدم
أن صفةالمعنى هي كل صفة موجودة في نفسها.
الثاني
: قد علمت مما سبق أن الصفات المذكورة ليست في التعلق سواء، فالقدرة والإرادة إنما
تتعلقان بالممكن. الأولى على جهة التأثير والثانية على جهة الإحاطة والإنكشاف،
والثاني على وجه الدلالة، والسمع والبصر يتعلقان بجميع الموجودات من الواجبات
والجائزات على وجه الإنكشاف. والحياة لا تتعلق بشئ فإنها لاتطلب أمرا زائدا على
القيام بالذات.
(وأما
كونه تعالى) قادرا ومريدا وعالما وحيا وسميعا وبصيرا ومتكلما ،فهي صفات معنوية،
منسوبة إلى المعانى من حيث كون الإتصاف بها فرع الإتصاف بالمعاني في العقل لا في
نفس الأمر فإن اتصاف الذات بكونه عالما لايصح إلا إذا قام به العلم وهكذا . وقد
تقدم أن الصفة المعنوية هي كل صفة ثبوتية إعتبارية لازمة للمعنى. ثم أن أضداد هذه
الصفات وأدلتها تؤخذ من صفات المعاني فلا نطيل بالإعادة.
الصفة الجائزة في حقه تعالى
وأما
الجائز في حقه تعالى ففعل كل ممكن أوتركه كخلق الذوات والصفات والأفعال الإضطرارية
والإختيارية والرزق والإحياء والإماتة والهداية والإضلال والعقاب والإثابة وغير
ذلك، فالعقاب بمحض عدله والثواب بمحض فضله تعالى. وترتيب الإثابة على الإيمان
والطاعة، والعقاب على الكفر والعصيان بمحض اختياره تعالى، ولوعكس ذلك لكان صوابا
وحسنا منه تعالى، فلايجب عليه سبحانه وتعالى فعل شئ من الممكنات، ولايستحيل عليه
تعالى شئ منها. والدليل على ذلك.
(عقلا)
أنه لو وجب عليه تعالى فعل شئ من الممكنات لصار الممكن واجبا، ولو إستحال عليه شئ منها
لصار الممكن مستحيلا، وهذا باطل كمالايخفى.
(ونقلا)
قوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار) ونحو ذلك. وإلى هنا قد إنتهى ما أردنا
إيراده في هذا الباب من الأحكام، وقد إتضح لك منه أن الله سبحانه وتعالى واجب له
الوجود أزلا وأبدا ،وأنه غني عن كل ماسواه، مفتقر إليه كل ماعداه ولا شريك له، ولا
تأثير لغيره من الإنس والجن والملائكة وغيرهم في شئ ما منزه عن كل ما أشعر بنقص من
مرض أو سقم أو عِيٍّ أو ذهول أو نعاس أو
فتور أو إحتياج لمعين أو مدبر أو صاحبة أو ولد أو عرش أو كرسي أو قلم أو دفتر أو
جند أو كاتب أو حاسب، بل كل المخلوقات قهر عظمته ممسكة بقدرته يدبر كل شئ، ويعلم
كل شئ ولايشغله شئ عن شئ، كان الله ولاشئ معه، ولايزال على ماهو عليه، لا يتحول
ولا يتبدل ولا يتغير بحال. (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. فسبحان
الذى بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون).
فعليك
يا أخي أن تعرف كل ما ذكرناه وقررناه لتكون من المفلحين الفائزين بالسعادة
الابدية. وإياك والمخالفة في شئ من ذلك وإلا كنت من الهالكين الضالين المضلين.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا سبيل الرشاد، وأن يوفقنا لما فيه رضاه لنكون من
الفائزين يوم التناد، وأن يدخلنا الجنة في زمرة عباده المقربين الذين (دعواهم فيها
سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وأخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) وصلى الله
على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.
الباب الثاني
في
النبوات
وهي المسائل التى يبحث فيها عما يتعلق
بالأنبياء
هذا
هو الجزء الثاني من جزأي الإيمان. لأن الإيمان مركب من جزأين:
أحدهما
الإيمان بالله تعالى، وهو حديث النفس التابع للمعرفة بما يجب له تعالى وما يسحيل
وما يجوز وقد تقدم بيان ذلك.
والثاني
الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام وهو أيضا حديث النفس التابع للمعرفة بمايجب
لهم وما يستحيل وما يجوز.
والمراد
بحديث النفس قبولها وانقيادها لما عرفته بحيث لايمنعها الكبر عن الإفرار
به.
واعلم
أن الرسل: هو إنسان ذكر حر بعثه الله سبحانه وتعالى إلى عبيده ليبلغهم عنه أحكامه
التكليفية والوضعية. وهي كون الشئ سببا أوشرطا أو مانعا أو صحيحا أوفاسدا وما
يتبعها من وعد ووعيد ونحوذلك. والنبي هو من أوحي إليه بشرع يعمل به سواء أمر بتبليغه أو لم يؤمر، وأن
رسالة الرسل لطف ورحمة من الله يخص بها من يشاء من عباده، وليست النبوة مكتسبة
برياضات ولا مجاهدات ولا غير ذلك، بل هو فضل منه وهبة تتضمن حكما ومصالح.
وطريق
ثبوت الرسالة هي المعجزة : وهي امر خارق للعادة قصد بها إظهار صدق من إدعى النبوة
على وفق الداعى. كانفجار الماء من بين الأصابع، وعدم إحراق النار، ذلك أنها بمنزلة
صريح التصديق القولى من الله تعالى لما جرت به العادة من أن الله تعالى يخلق عقبها
العلم الضروري بصدق المدعي، وإذا علمت أن إيماننا لايتم إلا بمعرفة الرسل عليهم
الصلاة والسلام ولايحصل لنا الإيمان بهم إلا بمعرفة مايجب وما يستحيل وما يجوز في
حقهم عليهم الصلاة والسلام.
الصفة الواجب في حق الرسل
(الصدق)
الواجب
في حقهم عليهم الصلاة والسلام الصدق فنقول: يجب لهم عليهم الصلاة والسلام (الصدق)
في كل ما يبلغونه عن المولى تبارك وتعالى ويستحيل عليهم ضده وهو (الكذب) في
شئ من ذلك. والصدق هو مطابقة الخبر لما في الواقع ونفس الأمر، كقولهم إن الله واحد
مالكم من إله غيره فهم صادقون في ذلك، لأن خبرهم هذا مطابق لما في الواقع. والكذب
أن لا يكون الخبر مطابقا لما في نفس الأمر.
والدليل
على وجوب الصدق لهم عليهم الصلاة والسلام واستحالة الكذب عليهم في ذلك :
(عقلا)
أنه لو وقع منهم الكذب في شئ مما بلغوه للناس لزم أن يقع الكذب في خبر المولى
تبارك وتعالى، لأنه أشار إلى تصديق الرسول بإظهار المعجزة على يديه وتصديقه بذلك
منزلة تصديقه بالكلام الصريح، بإظهار المعجزة منزل منزلة قوله تعالى – صدق عبدي في
كل مايبلغ عنى لا فرق بينهما أصلا، فلو كذب الرسول لكان المولى تعالى كاذبا في
تصديقه، ولا شك أن الكذب مستحيل في حقه تعالى لأن خبره على وفق علمه وعلمه لايحتمل
النقيض، فكذلك الكلام التابع له. فلزم أن يكون الكذب في حقهم عليهم الصلاو والسلام مستحيلا، ولزم أن
يكون الصدق واجبا لهم.
(ونقلا)
قوله تعلى: (وصدق الله ورسوله) (وصدق المرسلون).
(الأمانة)
ويجب
في حقهم عليهم الصلاة والسلام (الأمانة) ويستحييل عليهم ضدها وهي (الخيانة)
فأما الأمانة فهي حفظ جميع الجوارح الظاهرة والباطنة من التلبس بمنهي عنه نهى
تحريم أو كراهة ولوخفيفة. وأما الخيانة فهي عكسها. والدليل على وجوب الأمانة لهم
عليهم الصلاة والسلام واستحالة الخيانة عليهم:
(عقلا)
أنا نعلم أنهم عليهم الصلاة والسلام أكرم الخلق على الله وأتقاهم لله وأعرفهم
بالله وأشدهم خوفا من الله، حيث اصطفاهم واختارهم دون غيرهم وجعلهم سفراء إلى خلقه
لتبليغ ماشرعه لهم من الأحكام مع تصديقه لهم فيما بلغوه. فوجب أن يكونوا قدوة
لأممهم وقد أطلق الله تعالى في متابعتهم. ولم يجعل فيها تقييدا فلزم اننا مأمورون
بالإقتداء بهم في جميع أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فلوخانوا بفعل محرم أو مكروه
للزم أن يكون الشئ مأمورا به ومنهيا عنه وهو باطل. لما فيه من التناقض فوجبت لهم
عليهم الصلاة والسلام الأمانة، واستحال عليهم ضدهاوهي الخيانة.
(ونقلا)
قوله : (إني لكم رسول أمين) وقوله: (إن الله لا يحب الخائنين) وقد علمت أنهم
محبوبوا الله تعالى فوجب أن لا يكونوا خائنين، وقد ثبت إجماع أهل الحق على أمانة
الأنبياء والمرسلين، وأنهم منزهون عن جميع العيوب والأثام. فوجب التصديق بأمانتهم
عليهم الصلاة والسلام.
(التبليغ)
ويجب
في حقهم عليهم الصلاة والسلام (تبليغ ما أمروا بتبليغه للناس) وأنهم لم
يخفوا على الناس شيئا من ذلك لا عمدا ولا نسيانا على الوجه الذى أمروا به من كونه
لعموم الناس أو لبعضهم.
والدليل
على وجوب التبليغ في حقهم واستحالة ضده وهو إخفاء شئ من ذلك:
(عقلا)
واضح من دليل الامانة، لأنهم لو كتموا شيئا مما أمروا بتبليغه لكانوا خائنين، مع
أنهم معصومون من الخيانة.
(ونقلا)
قوله تعالى (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله
حسيبا) وقد صرح القرأن العزيز بكمال التبليغ في حق نبيينا صلى الله عليه وسلم قال
تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى).
(الفطانة)
ويجب
في حقهم عليهم الصلاة والسلام (الفطانة) اي التيقظ، ويستحيل عليهم ضدها وهي
(الغفلة) والبلادة، والدليل على ذلك:
(عقلا)
أنهم إنما أرسلوا لإقامة الحجج على الخصوم وإبطال دعاويهم الباطلة، فلو إنتفت عنهم
الفطانة لما قدروا على إقامة حجج على الخصم وذلك باطل.
(ونقلا)
قوله تعالى (وتلك حجتنا أتيناها إبراهيم على قومه) وقوله تعالى (وجادلهم بالتى هي
أحسن) الطريق التى هي أحسن بحيث تشتمل على نوع رفق بهم فجملة الواجبات في حقهم
أربعة: الصدق والأمانة والتبليغ والفطانة، ويستحيل في حقهم أضدادها وهي أربعة أيضا
: الكذب والخيانة والكتمان والبلادة.
الصفة الجائزة في حق الرسل
وأما
الجائز في حقهم عليهم الصلاة والسلام، فالأعراض البشرية التى لا تنافي على رتبتهم
العلية مع الغنى عنها بالله تعالى، كالمرض والجوع والفقر والأكل والشراب والنوم
إلا أنهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، والدليل على ذلك:
(عقلا)
مشاهدة وقوعها بهم
(ونقلا)
قوله تعالى (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في
الأسواق) يعنى وأنت مثلهم في ذلك ونحوه
(فإن قيل) ما الفائدة في إتصافهم بهذه الأعراض؟ (قلت): زيادة قدرهم وعلو
مرتبتهم وتعظيم أجورهم، ويشهد لهذا قوله عليه الصلاة والسلام : أشدكم بلاء
الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل "[رواه الطبرني] وقال "وإذا أحب
الله عبدا إبتلاه ليسمع تضرعه" [رواه البيهقي في شعب الإيمان والديلمي في
مسند الفردوس].
وحصول
التسلي بأحوالهم إذا نزل بنا ما نزل بهم، والتنبيه على حقارة الدنيا وخسة قدرها،
فإذا نظر العاقل في أحوالهم عليهم الصلاة والسلام من أمراض وأسقام وقلة مال وأذية
الخلق لهم، علم أنها لا قدر لها عند الله تعالى فأعرض عنها بقلبه وقالبه، وعلق
قلبه بربه (والإرشاد من الله تعالى إلى أنهم عليهم الصلاة والسلام عبيده، حتى لا
يفتتن الضعفاء بما يظهر على أيديهم من باهر المعجزات).
وقولنا
التى لاتنافي علوم رتبتهم، إحتراز من الأعراض اللتي تؤدي إلى نقص في حقهم كالعمى
والجذام والبرص والجنون ونحو ذلك من
المنفرات وكالأكل على الطريق والحجامة ونحوها من الحرف الدنيئة والإحتلام الصادر
من الشيطان وغير ذلك.
(معرفة الانبياء)
(ومما
يجب) علينا معاشر المكلفين أن تعرف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (تفصيلا) فيمن
علم منهم.
تفصيلا (وإجمالا) في غيرهم.
فأما
إجمالا فيجب علينا أن نعتقد أن لله تعالى رسلا وأنبياء ولا يجب التعرض لمعرفة
أسمائهم وعددهم لقوله تعالى (منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك).
وأما
مارواه ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر الغفاري أنه قال: قلت لرسول الله صلى الله
عليه وسلم" كم الأنبياء ؟ فقال (مائة الف وأربعة وعشرون الفا) فقلت. وكم
الرسل؟ فقال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا) فلا يكفي في الإستدلال هنا: لأن خبر
الواحد على تقدير إتصافه بالصحة لايفيد إلا بالظن، وهولايعتبر في الإعتقاديات، بل
في العبادات.
وأما
الذين تجب علينا معرفتهم تفصيلا فهم خمسة وعشرون وهم: أدم، إدريس، نوح، هود، صالح،
إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق يعقوب، يوسف،
أيوب، شعيب، موسى، هارون، ذوالكفل، داود، سليمان، إلياس، اليسع، يونس، زكريا، يحيى،
عيسى، وسيد الكائنات محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.
وأما
أولوالعزم أي زيادة الصبر وتحمل المشاق عن غيرهم فخمسة : مجموعة في قول بعضهم:
محمد إبراهيم موسى كليمه * فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلم
(وهم
في الفضل على هذا الترتيب، قال المحقق الأمير في حواشيه على الجوهرة بعدماعد من
يجب الإيمان بهم تفصيلا من الأنبياء. (أما نحو اليسع فأكثرالعامة يجهلون إسمه فضلا
عن رسالته، فالظاهر أنه كغيره من المتواتر لا يعد الجهل به كفرا إلا بعناد بعد التعلم)
إهـ. وهو تحقيق نفيس فاعرفه.
( فصل )
في بيان ثبوت رسالة نبيينا محمد صلى
الله عليه وسلم
اعلم
أنه قد علم بالضرورة أنه صلى الله عليه وسلم ادعى أن الله تعالى أرسله للعالمين
بشيرا ونذيرا، واستدل على صدقه في دعواه بمعجزات كثيرة ظهرت على يديه موافقة
لدعواه، ولم يقدر أحد على معارضته وكل من كان كذلك فهو رسول الله، فلزم بالضرورة
أن سيدنا محمدا رسول الله قطعا.
(معجزات نبينا محمد)
واعلم
أن معجزاته صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا
(منها) ما أخبربه عن المغيبات المستقبلة فمن ذلك
قوله
تعالى: (غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون) وقد وقع كما اخبر لأن
الروم غلبوا فارس بعدغلبهم الروم.
وقوله
تعالى: (إن الذى فرض عليك القرءان لرادك إلى معاد) أي مكة، وقد رده الله اليها.
وقوله
تعالى (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون)
وقد وقع، لأن المراد بالقوم أولى البأس الشديد بنوحنيفة وقد دعاهم ابو بكر رضي
الله تعالى عنه إلى قتالهم.
وقوله
صلى الله عليه وسلم : "الخلافة بعدي ثلاثون سنة" [رواه أحمد في مسنده]
وكانت خلافة الخلفاء الراشدين هذا القدر.
وقوله
"إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" [أخرجه أحمد في مسنده والترمذي
وغيرهما] وهذا إخبار منه ببقائهما بعده، وقد كان كذلك.
وقوله
لعمار رضي الله عنه : "تقتلك الفئة الباغية" [أخرجه البخاري في صحيحه
وغيره اي المخطئة للصواب، وإن لم تكن أثمة] وقد قتل مع الإمام على رضي الله عنه في
يوم صفين.
وقوله
للعباس رضي الله عنه حين أسره الصحابة قبل إسلامه: إِفْدِ نَفْسَكَ إِنَّكَ
ذُومَالٍ فقال: لا مال لي، فقال صلى الله
عليه وسلم: أَيْنَ المَالُ الذى وَضَعْتَهُ عِنْدَ أُمِّ الفضلِ وليس معكما غيركما
وقلت إن أصبتُ في سفي هذا فللفضل منه كذا ولعبد الله منه كذا فقال والذي بعثك
بالحق ماعلم أحد هذا غيري، وإنك لرسول الله، وأسلم.
(ومنها)
إنشقاق القمر بمكة حين سألوه أية، فانشق فلقتين فلقة فوق الجبل، وفلقة دونه ورأه
أهل الأفاق كلهم كذلك، وفيه أنزل الله تعالى: (إقتربت الساعة وانشق القمر).
وروي
عن أنس أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم أية، فأراهم
إنشقاق القمر مرتين أي فلقتين، أخرجه البخاري ومسلم، فيجب الإيمان به والإعتقاد
بوقوعهم لشهادة القرأن المجيد بذلك: فإنه أدل دليل وأقوى مثبت له،وإمكانه لايشك
فيه مؤمن بعد ما أخبرنابه الصادق الأمين، لأن القمر مخلوق لله يفعل فيه كيف يشاء،
كما يفنيه ويكوره في آخر أمره، ولا ينكره إلا مبتدع ضال مضل مخالف للملةالسمحة،
وذلك لما أعمى الله قلبه عن التصديق بالقران الكريم وأحاديث النبي عليه الصلاة
والسلام ].
(ومنها)
نبع الماء من بين أصابعه، وثكير قليله ببركته صلى الله عليه وسلم
في أوقات كثيرة رويت بأحاديث صحيحة.
(ومنها) البركة في الطعام القليل حتى كفى الجمع الكثير.
(ومنها)
كلام الشجر وإجابة دعوته، كما روى عن اين عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه
وسلم وجد بعض أسفاره أعرابيا قد دعاه إلى الإسلام، فقال من يشهد على ما تقول؟ فقال صلى الله عليه وسلم : هذه الشجرة، ثم دعا شجرة،
فأقبلت تخد في الأرض حتى قامت بين يديه وقالت : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول
الله، ثلاث مرات، ثم رجعت إلى مكانها.
(ومنها) حنين الجذع، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان
يستند إلى جذع ويخطب، فلما صنع له المنبر وخطب عليه حن له ذلك الجذع. وسمع الناس
له بكاء حتى كثر بكاؤهم لما رأوا به، ولم يزل كذلك حتى جاءه النبي صلى الله عليه
وسلم وجعل يهدئه كما تهدئ الام ولدها حتى سكن) الحديث رواه الشيخان وغيرهما عن
بضعة عشر من أكابر الصحابة.
(ومنها) تسبيح الحصى ونطق الجمادات، روى عن على ابن أبي
طالب رضي الله عنه قال: كنامع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فخرج إلى بعض نواحيها
فما إستقبله شجر ولا جبل إلا وقال: السلام عليك يارسول الله.
(ومنها) أن جملا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن
أصحابه استعملوه زمنا طويلا، فلما كبر أرادوا نحره، فتشفع فيه. رواه جماعة من
الصحابة.
(ومنها) كلام الشاة المسمومة له حين صنعتها له يهودية
بخيبر.
(ومنها)
أنه أتى بصبي في حجة الوداع يوم ولد، فقال له: من أنا؟ فقال: رسول الله، فقال:
صدقت بارك الله فيك فسمي مبارك اليمامة.
(ومنها)
غير ذلك مما لا يحصى [وتضمنت ما ذكرناه ومالم نذكر كتب الحفاظ المؤلفة في ذلك،
كدلائل النبوة للبيهقي وأبي نعيم والطبراني في معاجمه، والكتب الستة، والمسانيد
كمسند الإمام أحمد]، وأعظمها القرآن الشريف، وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام تحدي العرب بأقصر سورة منه،
فعجزوا جميعا، وقال الله تعالى: ( وإن كنبم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا
بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله
إن كنتم صادقين، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التى وقودها الناس
والحجارة أعدت للكافرين) فلا يخلو الحال إما أن يكون الإتيان بثمل بلاغة القرآن في
قدرة العرب أولا. أما الأول فباطل، لأنهم لو كان في قدرتهم ذلك لفعلوا. وأما
الثاني فهو الحق، لأنهم ما قدروا على الإتيان بسورة من مثله حين تحداهم بذلك، وقد
كانوا في عدد كثير فصحاء بلغاء أعداء للنبي صلى الله عليه وسلم، وحيث إن ذلك ليس
في قدرتهم، فيكون القرأن أعظم معجزة.
( فصل )
(ارسال النبي رحمة للعالمين)
ومما
يجب علينا أن نعتقد أن الله أرسل نبينا
رحمة للعالمين، برفع العذاب عن الكفار في الدنيا، وعن المؤمنين في الدارين وبرفع التكاليف الشاقة التى كانت للأمم السابقة كتعيين القصاص في العمد والخطاء، وقطع
الأعضاء الخاطئة وقطع موضع النجاسة والتوبة بقتل النفس.
وقد
كان الرجل من بني إسرائيل يذنب الذنب فيصبح وقد كتب على باب بيته إن كفارته أن
تنزع عينيك فينزعهما، فرفع الله ببركته هذه المشقات ونحوها، قال الله تعالى: (وما أرسلناك
إلا رحمة للعالمين)، وقال ( َويَضَعُ عَنْهُمْ إِْصرَاهُمْ وَالأغلالَ التى كَانَتْ
عَلَيْهِمْ) وقال: (وماجعل عليكم في الدين من حرج). فجزاه الله عنا أحسن الجزاء
(ومما يجب إعتقاده) أن نبيينا صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق أجمعين إنسا وجنا
وملكا، وهذا مما أجمع عليه المسلمون،
والدليل
على ذلك أن أمته أفضل الأمم كما سيأتى بيانه، ولا شك أن خيرية الأمم إنما هي بحسب
كمالها في الدين، وذلك تابع لكمال نبيها الذى اتبعته فتفضيلها تفضيل له، وقوله صلى
الله عليه وسلم: " أنا أكرم الأولين والأخرين على الله ولافخر "
[الحديث. رواه الترمذي] وكون الشفاعة العظمى والكلام له في الموقف الأعظم دون جميع
ما سوى الله، وكذا ماإشتهر في سبق نبوته على الكل وأخذ الميثاق عليهم أن يتبعوه إن
أدركوه، وقد أجرى الله جميع المنافع الدينية والدنيوية لعباده على يديه صلى الله
عليه وسلم فهو إنسان عين الموجود والسبب في كل موجود وكل الأنبياء نوابه وخلفاؤه
كما قال النابلسى:
كل النبيين والرسل الكرام أتوا * نيـابة
عنه في تبليغ دعواه
فهوالرسول إلى كل الخلائق في * كل
الدهور ونابت عنه أفواه
وقال
الإمام فخر الدين الرازي المعروف بابن الخطيب :
أنت الذى لولاك ما خلق أمرؤ * كلا
ولا خلق الوري لولا كا
أنت الذى من نورك
البدراكتسى *
والشمس
مشرقة بنوربها كا
أنت الذى لما رفعت إلى السما * بك
قد سمت وتزينت لسراكا
أنت الذى نـاداك ربك مرحبا * ولقد
دعاك لقربه و حبـاكا
أنت الذى فينا سألت شفـاعة * ناداك
ربك لم تكن لسواك
أنت الذى لمـا
توسل أدم * من
ذنبه بك فاز وهو أباكا
وبك الخليل دعا فعادت ناره
* بردا
وقد خمدت بنورسناكا
ودعاك أيـوب لضـر مسه * فأزيل
عنه الضر حين دعاك
وبك المسيح أتى بشيرا مخبرا * بصفات
حسنك مادحالعلاكا
وكذاك موسى لم يزل متوسلا * بك
في القيامة مرتج لنداكا
والأنبياء وكل خلق في الورى * والرسل
والأملاك تحت لواكا
لك معجزات أعجزت كل الورى* وفضائل
جلت فليس تحاكى
قد فقت ياطه جميع الأنبيـاء * نورا
فسبحان الذى سوّاكا
والله يايس مثـلك لـم يكـن * في
العالمين وحق من ناجاكا
عن وصفك الشعـراء يامدثر * عجزوا وكلوا عن صفات علا
كا
إنجيل عيسى قد أتى بك مخبرا * وأتى
الكتاب لنا بمدح علاكا
ماذا يقول المادحون وما عسى * أن
يجمع الكُتَّابَ من معناكا
والله لو أن البحـار مـدادهم * والعشب أقلام جعلن لذاكـا
لـم تقـدر الثقلان تجمع ذرة * أبدا
وما اسطاعوا لذا إدراكا
لي فيك قلب مغـرم يـاسيدي * وحشـاشة
محشوة بهواكا
فإذا سكت ففيك صمتي كـله * وإذا
نطقت فمادحا عليـا كا
وإذا سمعت فعنك قولا طيبـا * وإذا
نظـرت فلا أرى إلا كا
ياأكرم الثقلين ياكـنز الـورى * جد لي بجودك وا رضنى برضا كا
أنا طامع في الجود
منك ولم يكن *
لابن الخطيب من الانام سواكـا
فعسـاك تشفع فيه عند حسابه * فلقد
غدا متمسكـا بعراكـا
ولأنت أكرم شـافع ومشفـع * ومن
التجا لحماك نال وفاكا
فاجعل قراى شفاعة
لي في غد * فعسى أرى في الحشر تحت لواكا
صلى عليك الله ياخير الورى * مـا
حن مشتاق إلى مثواكا
ويليه صلى الله عليه وسلم في الفضل إبراهيم ثم موسى ثم عيسى
ثم نوح ثم بقية الرسل، ثم الأنبياء غير الرسل.
ثم
رؤساء الملائكة، وهم جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت ثم الخلفاء الأربعة
الراشدون، ثم سائر الملائكة، ثم سائر البشر، وأفضل الخلفاء أبو بكر رضي الله عنه،
ومكث في الخلافة سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام، ويليه في الفضل عمر ابن الخطاب رضي
الله عنه،ومكث في الخلافة عشر سنين وستة أشهر وثمانية أيام، ويليه عثمان ابن عفان
رضي الله عنه، ومكث في الخلافة إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وتسعة أيام، ويليه على
ابن أبي طالب كرم الله وجهه. ومكث في الخلافة أربع سنين وتسعة أيام . ثم بقية
العشرة المبشرين بالجنة وهم : طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن
بن عوف، وسعد بن وقاص، وسعيد بن زيد، وأبو عبيدة عامر بن الجراح ثم أهل غزوة بدر،
وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر أنهاها بعضهم إلى ثلاثمائة وسبعين رجلا. ثم أهل غزوة
أحد وكانوا الفا تقريبا، ثم أهل بيعة الرضوان وكانوا ألفا وأربعمائة، وقيل ألفا
وخمسمائة وقيل لها بيعة الرضوان لقوله تعالى فيهم : (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ
يبايعونك تحت الشجرة) الأية. ثم سائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وكلهم
عدول.
[ويجب
الكف عما شجر بينهم أوحمله على التأويل الحسن، لأن ما وقع منهم كان باجتهاد، وقد
وقع تشاجر بين على ومعاوية رضي الله عنهما، وقد إفترقت الصحابة حينئذ ثلاث فرق:
فرقة إجتهدت فظهر لها أن الحق مع على فقاتلت معه. وفرقة إجتهدت فظهر لها أن الحق
مع معاوية فقاتلت معه. وفرقة توقفت. فالمصيب له أجران، والمخطئ له أجر إجتهاده
كسائر المجتهدين. وفي الحديث: الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا من
بعدي" [ رواه الترمذي].
وقال
: لا تسبوا أصحابي فمن سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل
الله منه صرفا ولا عدلا" [ رواه الإمام أحمد وغيره ] والصرف النفل، والعدل
الفرض ]
وأضل
النساء مريم بنت عمران كما اعتمده الرملي، ثم فاطمة ثم خديجة ثم عائشة ثم أيسة
امرأة فرعون، وقال تعالى: يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين
).
فإن
قيل : رواه الطبرني " خير نساء
العالمين مريم بنت عمران ثم خديجة بنت حويلد ثم فاطمة بنت محمد صلى اله عليه وسلم
ثم آسية امرأة فرعون" ( أجيب) بأن خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة لا
باعتبار السيادة، وقيل بالوقف وهو أسلم.
(أفضل
القرون قرن النبي)
ومما
يجب إعتقاده أن أفضل القرون القرن الذى اجتمعوا
بالنبي صلى الله عليه وسلم وأمنوا به، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم لقوله صلى
الله عليه وسلم في الصحيحين: "خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين
يلونهم" قال عمران بن حصين : فلا أدري أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد
قرنه مرتين أوثلاثا، والصحيح أن المراد بالقرن الجيل فالقرن الأول الصحابة حتى
ينقرضوا، والقرن الثاني التابعون حتى ينقرضوا والقرن الثالث تابعوا التابعين حتى
ينقرضوا.
والأصح
أن القرن مائة سنة لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على رأس يتيم، وقال
له: " عش قرنا فعاش مائة عام " ثم كل قرن فضل مما بعده لقوله صلى الله
عليه وسلم: ما من عام أوما من يوم إلا والذي بعده شر منه، [رواه البخاري والترمذي].
(وجوب
اتباع السلف الصالح)
ويجب
إتباع السلف الصالح في أقوالهم وأفعالهم، وفيما تأولوه واستنبطوه، واقتفاء آثارهم
باطنا وظاهرا، فمن أطاع بظاهره دوم باطنه فهو عاص وليس بمطيع قال العلامة اللقانى:
وكن
كما كان خيـار الخلق* حليف حلم تابعا للحـــق
فكل
خير في اتباع من سلف* وكل شر في ابتداع من خلف
( وقال شارحه العلامة الشيخ عبد السلام:
"ولا تكن كما كان عليه شرار الخلف من الأخلاق الرديئة والأفعال الغير المرضية،
لأ كل شر حاصل في ابتداع من خلف، أي بسبب ابتداع الخلف السئ الذين أضاعوا الصلاة
واتبعوا الشهوات" اهـ. والخلف في كلامه بسكون اللام.
(وجوب
الإيمان بالأولياء)
ويجب
الإيمان بالأولياء، فمن أنكر وجودهم كفر لمصادمة القرأن قال تعالى : (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون) وكذا يجب إعتقاد كراماتهم في حياتهم وبعد وفاتهم، والكرمة أمر خارق للعادة
يظهر على يد عبد ظاهر الصلاح غير مقرون بدهوى النبوة ،وكل ذلك ورد به الكتاب
والسنة.
وأجمعت
عليه الأمة قبل ظهور المخالفين وكل ماكان كذلك فالإيمان به واجب.
(وجوب
الإعتقاد بأن أئمة الدين كلهم عدول)
ومما
يجب إعتقاده أن أئمة الدين كلهم عدول ومن قلد واحدا منهم نجا. الأئمة ثلاثة أقسام:
(القسم
الأول)
اعتنوا بضبط الفقه وتحريره على الكتاب والسنة، والمشهور منهم أبو حنيفة ومالك
والشافعي وأحمد رضي الله عنهم. وكلهم على هدى من الله. وتقليد واحد منهم فرض لقوله
تعالى: ( فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) ولقوله تعالى صلى الله عليه وسلم:
" ألا سألوا إّذ لم يعلموا "ولا يجوز تقليد غيرهم بعد عقد الإجماع عليهم
لأن مذاهب الغير لم تدون ولم تضبط بخلاف هؤلاء، ومن لم يقلد واحدا منهم، وقال :
أنا أعمل بالكتاب والسنة" مدعيا فهم الأحكام منهما فلا يسلم له بل هو مخطئ
ضال مضل سيما في هذا الزمان الذى عم فيه الفسق وكثرت فيه الدعوى الباطلة لأنه
استظهر على أئمة الدين وهو دونهم في العلم والعمل والعدالة والإطلاع. إذ لا يسمع
لغيرهم كلام حق يزيد عليهم أو يماثلهم في العلم والعدالة، والإحاطة بعلم العربية،
وأقوال الصحابة والأصول والتفسير والحديث وفي تحقيق بقية شروط الإجنهاد وهذا مستحيل لأن من الأئمة أبا حنيفة
وهو تابعي، وكذا قيل في مالك. والشافعي وأحمد من تابعي التابعين، وفي الحديث
اللصحيح" خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" .
والإختلاف
في الفروع لا يضر بل هو رحمة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إختلاف أمتى
رحمة" رواه البيهقي ومراعة الخلاف والأخذ بالأحوط مندوب عند الكل.
(القسم الثاني) اعتنوا ببيان أصول الدين، وكالأشعرى
والماتردى وأثبتوا أدلتها من العقل والنقل وردوا شبه أهل الضلال.
(القسم
الثالث)
اعتنوا بتطهير النفوس من الخبائث الباطنة ومن أمراض القلوب كالكبر والحسد وأوجبوا
على المكلف حفظ قلبه وجوارحه مما يكرهه لقوله تعالى: (يوم لا ينفع مال ولابنون إلا
من أتى الله بقلب سليم)، وقوله تعالى: (إن السمع والبصر والفؤد كل أولئك كان عنه
مسؤلا) وهؤلاء الجماعة كأبي يزيد البسطامى، والشيخ عبد الخالق الفجدوانى، والسيج
محمد بهاء الدين النقشبندى والشيخ أحمد الفاروقى السرهندى والجنيد البغدادى وحجة
الإسلام أبي حامد الغزالى، والسهروردى، ومعروف الكرخى، والسيد عبد القادر الجيلانى
وأضرابهم وهم الصوفية، وأتباعهم فيما دعوا اليه من أن تقوى الله سرا وجهرا فرض،
والكل على هدى من الله كأئمة الفقه وبنوا أمرهم على اعتقاد أهل السنة والجماعة
وفقه العلماء المجتهدين و فكل صوفي فقيه.
وبداية
طريقهم الفرار إلى الله من كل شئ كماقال الله تعالى (ففروا إلى الله) وغاية أمرهم
التعلق بالله وحده كما قال الله تعالى (قل الله ثم ذرهم في حوضهم يلعبون).
(وجوب
الطاعة لأئمة المسلمين في غير معصية الله)
وكذلك
تجب الطاعة لأئمة المسلمين في غير معصية الله تعالى لقوله تعالى (أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم). قال بعضهم: المراد بهم العلماء العاملون بعلمهم
الأمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وقال بعضهم: المراد بهم أمراء الحق العاملون
بأمر الله وأمر السنة، ولا يطاعون في معصية الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم:
(لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) رواه الإمام احمد والحاكم.
ومن
هذه المادة قول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: "من رأى منكم في إعوجاجا"
يعنى ميلا عن الحق "فليذكرني" فقام اليه بلال أو سلمان فقال: لو رأينا
فيك إعوجاجا لقومناك بسيوفنا، فقال الحدلله الذى جعل في هذه الأمة من إذا رأى فيّ إعوجاجا
قوّمني بسيفه".
(عموم
رسالة النبي صلي الله عليه وسلم)
ومما
يجب إعتقاده أن الله تعالى قد عمم رسالته صلى الله عليه وسلم في الزمان والمكان
فأرسله إلى جميع المكلفين من الإنس والجن لقوله صلى الله عليه وسلم " بعثت
إلى الناس كافة" [ رواه البخاري
وغيره ] ولقوله تعالى (وما أسلناك إلا كافة للناس) ومن نفى رسالته صلي الله
عليه وسلم إلى الناس كلا أو بعضا فهو كافر كمن نفى الاسلام، و الأصح أنه صلي الله
عليه وسلم مرسل إلى الملائكة.
(خاتم النبيين)
ومما
يجب اعتقاده أن الله تعالى خاتم به النبوة و الرسالة، قال تعالى (ما كان محمد أبا
أحد من رجالكم و لكن رسول الله و خاتم النبيين) فلا نبي بعده صلى الله عليه وسلم.
وماجاء به من الأحكام قرأنية كانت أو سنية لاينسخ بشرع غيره لاكلا ولابعضا بل هو
ناسخ لكل شريعة جائت قبله، وأما نسخ بعض شريعته ببعض أخر منها فهو جائز واقع [
كعدة المتوفى عنها زوجها فإنها كانت تعتد بسنة أولا، لقوله تعالى: (والذين يتوفون
منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول) ثم نسخ بقوله تعالى: والذين
يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهمن أربعة أشهر وعشرا )] "
(وجوب
الاعتقاد بالإسراء و المعراج)
ومما
يجب إعتقاده " أن الله تعالى اسري به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى
لقوله تعالى: (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى).
وأن
ذلك كان بالجسد والروح. كان عند البيت بين النائم واليقظان بين الرجين عمه حمزة
وابن عمه جعفر، فجائت الملائكة فأيقظته، وشرح صدره جبريل، واستخرج قلبه وغسله بماء
زمزم ثم أعاده مكانه بعد أن ملأه إيمانا وحكمة، ثم ركب البراق مسرجا ملجما وسار
إلى أن وصل إلى المسجد الأقصى فرأى ما رأى من العجائب في مسراه وأحضرله الأنبياء
عليهم الصلاة ةالسلام وصلى بهم وبالملائكة إماما، ونصب له المعراج فصعد إلى سماء
الدنيا، فرأى آدم فسلم عليه، ثم صعد إلى السماء الثانية فرأى يحيى وعيسى، فسلم
عليهما، ثم صعد إلى الثالثة فرأى يوسف فسلم عليه، ثم إلى الرابعة فرأى إدريس فسلم
عليه. ثم إلى الخامسة فرأى هارون فسلم
عليه، ثم إلى السادسة فرأى موسى فسلم عليه، ثم إلى السابعة فرأى إبراهيم
الخليل فسلم عليه، ورأى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون الف ملك
لايعودون إلى يوم القيامة، وهو بحذاء الكعبة، ثم إلى سدرة المنتهى وإليها ينتهي
مايعرج من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي مايهبط من فوق فيقبض منها، وإذا في أصلها
أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران
فأما الباطنان فهما في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ورأى ما رأى هناك من العجائب، ثم
عرج به لمستوى سمع فيه صريف الأقلام ثم غشيته سحابة فيها من كل لون فتأخر جبريل
فارتفعت به حيث شاء الله فرآه سبحانه وتعالى لا في جهة ولا بانحصار منزها عن صفات
الحوادث لا بقلبه فقط بل وبعينى رأسه (مازاغ البصر وما طغى) فخرّّّ ساجدا وكلمه
ربه بما شاء، وافترض عليه وعلى أمته خمسين صلاة كل يوم وليلة، فنزل إلى موسى فقال:
مافرض ربك على أمتك؟ قال: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك
لاتطيق ذلك، فرجع إلى ربه فقال: يارب خفف عن أمتى فحط عنها خمسا، فلم يزل يرجع بين
موسى وربه ويحط خمسا خمسا حتى قال: يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة كل صلاة
بعشر فتلك خمسون صلاة ما يبدل القول لدى.
[واعلم
أن ذهابه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المدس يقال له إسراء ومنكره بعد العلم
به كافر].
وصعوده
من بيت المقدس إلى مكان الخطاب يقال له المعراج ومنكره بعد العلم به فاسق.
(ومن
أراد معرفة هذه الصفة الشريفة مبسوطة وما يتعلق بها من المباحث فليرجع إلى كتاب
ضوء السراج في الإسراء والمعراج للمؤلف رضي الله عنه)
(وجوب
الاعتقاد بأن الله تعالي كلم موسى)
ومما
يجب إعتقاده أن الله تعالى كلم موسى عليه الصلاة والسلام على الجبل لقوله تعالى:
(وكلم الله موسى تكليما) وقوله: (ولماجاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) اي أزال عنه
الحجاب وأسمعه الكلام القديم ثم أعاد الحجاب: وليس المعنى أنه ابتدأ كلاما ثم سكت
لأنه متكلم أزلا وأبدا. وروى أن موسى عند قدومه من المناجاة كان يسد أذنيه لئلا
يسمع كلام الخلق
(وجوب
الإعتقاد بمنع استراق السمع ببعثه صلي الله عليه وسلم)
ومما
يجب إعتقاده منع استراق السمع ببعثه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (فمن يستمع الآن
يجد له شهابا رصدا) وأنه لا يبلى جسده الشريف، وكذا سائر الأنبياء كما رواه أبو داود
وغيره. وأنه صلى الله عليه وسلم حيّ في
قبره، وكذا سائر الأنبياء أيضا ولهذا قيل لاعدة على أزواجه.
وقد
وقع لبعض العارفين مخاطبته له ورده عليه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ماتواتر عن
القطب الرفاعي رضي الله عنه حتى صار معلوما بالضرورة في حالة زيارته للقبر الشريف
من قوله تعاله :
في حالة البعد روحي كنت أرسلها *
تقبل الأرض عنى
وهي نائبتي
وهذه
دولة الأشباح قد حضرت *
فامدد
يمينك كى تخطى بها شفتي
فمد له صلى الله عليه وسلم يده الشريفة
فقبلها وشاهد ذلك الحاضرون من العارفين، ويؤيد ذلك ما جاء في رواية للطبرنى أنه
صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من عبد يصلى علي إلا بلغتنى صلاته قلنا يارسول الله
وبعد وفاتك؟ قال : وبعد وفاتى إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)
وعن
العارف الوفائى قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لى عن نفسه الشريفة :
لست بميت وإنما موتى عبارة عن تستري عمن لايفقه عن الله وأما من يفقه عن الله فها
أنذا أراه ويراني
(ولادة
النبي)
ومما
ينبغى أن يعرف أنه صلى الله عليه وسلم ولد بمكة في المكان المعروف بسوق الليل قبيل
فجر يوم الإثنين ثانى عشر ربيع الأول، وهذه الليلة أفضل من ليلة القدر، ويستجاب
الدعاء في الساعة التى ولد فيها كل ليلة، وأنه بعث بها وهاجر إلى المدينة المنورة
فقدم اليها يوم الإثنين ثاني عشر ربيع الأول وبها توفي ودفن وعمره ثلاث وستون سنة
(نسب
النبي)
ومما
ينبغي أيضا معرفة نسبه صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه ومن جهة أمه. فاما نسبه صلى
الله عليه وسلم من جهة أبيه فهو سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن
عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن
كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وليس فيما بعده
إلى آدم طريق صحيح، غير أنه يجب أن نعرف أن عدنان ينتهي نسبه إلى سيدنا إسماعيل
الذبيح بن إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام. وأما نسبه صلى الله عليه وسلم
من جهة أمه فهو سيدنا محمد بن امنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب المذكور
سابقا فهي تجمع معه صلى الله عليه وسلم فيه.
(أولاد
النبي)
ومما
ينبغي أن نعرف أولاده الكرام عليه وعليهم
الصلاة والسلام. وأما بناته صلى الله عليه وسلم فأربع زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة
الزهراء. وأما أبناؤه فثلاثة : القاسم وعبد الله وهو الملقب بالطيب والطاهر
وإبراهيم وكلهم من سيدتنا خديجة رضي الله عنها إلا إبراهيم فإنه من مرية القبطية.
(أخوال النبي)
أخوال
النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وخالاته
إثنتان.
وقد نظم بعضهم أسمائهم بقوله :
خال
النبي أسود عمير * عبد يغوث ليس فيهم ضير
فريضة
فاختة خالات * والكـل قبل بعثه قد ماتوا
(زوجات
النبي)
وزوجاته
أمهات المؤمنين إحدى عشرة، وهي خديجة بنت خويلد، وعائشة بنت أبى بكر، وحفصة بنت
عمر وأم سلمة بنت أبي أمية، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة وزينب بنت
جحش، وزينب بنت خزيمة وتوفيت هي وخديجة في حياته، وميمونة بنت الحارث وجويرية بنت
الحارث،وصفية بنت حيى
(أعمام
النبي و عماته)
وأعمامه
بنوعبد المطلب إثنا عشر عما وهم: الحارث، وابو طالب ،والزبير وحمزة، وأبولهب، والغيداق،والمقوم،
وضرار، والعباس، وقثم وعبد الكعبة وحجل.
وعماته
بنات عبد المطلب ست، وهن : عاتكة، وأمية، والبيضاء، وبرة ،وصفية، وأروى
(شرف
أمة النبي و فضلهم علي غيرهم)
ومما
يجب إعتقاده أن الله تعالى شرف أمته وفضلهم على سائر الأمم قال تعالى : كنتم خير
أمة أخرجت للناس) [وروى أبو نعيم في الحلية عن أنس رضي الله عنه قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوحى
الله إلى موسى نبي بني إسرائيل أنه من لقيني وهو جاحد بأحمد أدخلته النار، قال
يارب، ومن أحمد؟ قال: ماخلقت خلقا أكرم علي منه، كتبت إسمه مع إسمي في العرش قبل
أن أخلق السموات والأرض إن الجنة محرمة على جميع خلقي حتى يدخلها هو وأمته، قال
ومن أمته؟ قال الحمادون يحمدونني صعودا وهبوطا وعلى كل حال يشدون أوسطهم ويطهرون
أطرافهم صائمون بالنهار رهبان باليل، أقبل منه اليسير وأدخلهم الجنة بشهادة أن لا
إله إلا الله، قال : اجعلنى نبي تلك الأمة، قال : نبيها منها، قال اجعلنى من
أمة ذلك النبي، قال استقدمت واستؤخر ولكن
سأجمع بينك وبينه في دار الخلد ]
وقد
روي في فضل هذه الأمة أحاديث كثيرة شهيرة ( وناهيك ) بقوم جعلهم الله أمة وسطا
شهداء على الناس يوم القيامة فأقامهم في ذلك مقام الرسل الشاهدين على أممهم : ووسط
الشيء خياره .
وقد
ثبت في الأحاديث الصحاح أن الرسل يسألون يوم القيامة عن البلاغ فيدعون البلوغ،
فينكر الكافرون من قومهم فيقولون مابلغونا شيأ فتشهد عليهم أمة محمد صلى الله عليه
وسلم بما في القرأن ويشهد بتصديقهم النبي صلى الله عليه وسلم وذلك قوله تعالى : ( وكذلك
جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا )
وقد
سماهم الله تعالى بعباده الصالحين قال تعالى : ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد
الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحين) وهي كل أرض فتحها المسلمون كالحجاز والعراق
والشام ومصر، وفسر الأرض أيضا بالجنة. وقال تعالى : ( ونطمع أن يدخلنا ربنا مع
القوم الصالحين ) ووصفهم بالفلاح قال تعالى ( قد افلح المؤمنون ) ولما قرأ موسى
عليه والصلاة والسلام الألواح وجد فيها فضيلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال
يارب ما هذه الأمة المرحومة التى أجدها في الألواح، قال هي أمة محمد صلى الله عليه
وسلم يرضون مني باليسير وأعطيهم الكثير وأرضى منهم باليسير من العمل أدخل أحدهم
الجنة بشهادة أن لا إله الا الله وأن محمدا رسول الله قال : فإنى أجد في الألواح
أمة يحشرون يوم القيامة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر فاجعلهم أمتى قال : تلك
أمة أحمد أحشرهم يوم القيامة غرا محجلين
قال : يارب إنى أجد في الألواح أمة أزودتهم على ظهورهم وسيوفهم على عواتقهم
أصحاب رؤوس الصوامع يطلبون الجهاد بكل أفق حتى يقاتلون الدجال فاجعلهم أمتى . قال
: هم أمة أحمد . قال يارب إنى أجد في الألواح أمة الأرض لهم مسجد وطهور وتحل لهم
الغنائم فاجعلهم أمتى قال: هم أمة أحمد قال يارب إنى أجد في الألواح أمة يحجون إلى
البيت الحرام لا يقضون منه وطرا يعجون بالبكاء عجيجا ، ويضجون بالتلبية ضجيجا
فاجعلهم أمتى قال : هم أمة أحمد قال فما تعطيهم على ذلك ؟ قال أزيدهم المغفرة
وأشفعهم فيمن وراءهم، قال يارب إنى أجد في الألواح أمة قليلة أحلامهم يعلفون
البهائم ويستغرون من الذنوب يرفع أحدهم اللقمة إلى فيه فما تستقر في جوفه حتى يغفر
له بفتحها باسمك ويختمها بحمدك فاجعلهم أمتى، قال هم أمة احمد. قال : يارب إتى أجد
في الألواح أمة هم ألسابقون في الأخرة والأخرون في الخلق فاجعلهم أمتى قال : تلك
أمة أحمد. قال يارب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت
حسنة واحدة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فاجعلهم أمتى. قال تلك
أمة أحمد، قال يارب إنى وجدت في الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة ثم لم يعملها لم تكتب عليه وإن عملها كتبت سيئة
واحدة فاجعلهم أمتى، قال هم أمة أحمد، قال يارب إنى وجدت في الألواح أمة هم خير
الأمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
فاجعلهم أمتى. قال تلك أمة أحمد، قال موسى : يارب بسطت هذا لأحمد وأمته
فاجعلنى من أمته قال الله : ( ياموسى إني إصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامى فخذ
ما أتيتك وكن من الشاكرين) قال رضيت يارب. روي ذلك عدة من الحفاظ بألفاظ متقاربة.
( فصل )
في
وجوب الإيمان بالكتب
ويجب الإيمان بالكتب السماوية إجمالا
وتفصيلا أما إجمالا فبأن نعتقد أن لله كتبا أنزلها على رسله وبين فيها امره ونهيه
ووعده ووعيده "
وأما
تفصيلا " فبأن نعرف الكتب الأربعة وهي التورة لموسى والزبور لداوود والإنجيل
لعيسى والفرقان لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
وعليهم أجمعين.
(أن
الله حفظ القرآن)
ومما
يجب إعتقاده أن الله سبحان الله وتعالى حفظ كتابه العزيز وهو القرأن من التبديل
والتحريف قال تعالى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم
حميد"). وقال (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) اي من التحريف والزيادة
والنقصان، فلو أراد أحد أن يغيره بحرف اونقطة لقال له أهل الدنيا أنت كذاب حتى أن
الشيخ المهيب لو اتفق له تغيير في حرف منه لقال له الصبيان أخطأت أيها الشيخ،
وصوابه كذا. ولم يتفق ذلك لغيره من الكتب لأنه لا كتاب إلا وقد دخله التحريف
والتصحيف والتغيير من علماء السوء مع أن دعواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة
على إبطاله وإفساده
(أن
القرآن شامل لجميع الكتب)
ومما
يجب إعتقاده أنه يشتمل على ما إشتملت عليه جميع الكتب، وأنه تعالى يسر حفظه
لمتعلميه . قال تعالى (ولقد يسرنا القرأن للذكر)
فحفظه ميسر للغلا م في أقرب زمان، وسائر الامم لايحفظون كتبهم، وأنه أية
باقية ما بقيت الدنيا، وأنه ناسخ لجميع الكتب التى قبله كما سبق فيجب على كل مكلف
العمل به فقط، والتمسك به دون غيره . اللهم وفقنا للعمل والتمسك به ياكريم .
الباب
الثالث
في
السمعيات
اي
الامور التى لا يستقل العقل بمعرفتها
بل لا
تعرف إلا بالسمع من الكتاب أوالسنة
وقد
إتضح لك ياأخي مما سلف أنه يجب على كل مكلف الإيمان بكل ما جاء به النبي صلى الله
عليه وسلم حيث إنه لاشك في ثبوت رسالته، وأنها عامة لسائر الخلائق بالادلة القطعية
اليقينية. وإذا علمت ذلك فنقول :
(الإيمان
بالملائكة)
يجب
على كل مكلف الإيمان بالملائكة عليهم الصلاة والسلام إجمالا وتفصيلا. وهم أجسام
لطيفة نورانية قادرة على أن تتشكل بأشكال مختلفة. كاملة في العلم والقدرة على
الأعمال الشاقة.
وشواهد
إثباتهم من الكتاب والسنة كثيرة لا تعد ولا تحصى كقوله تعالى: (لن يستنكف المسيح
أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون) وقوله تعالى: (إذ يوحى ربك إلى الملائكة
أنى معكم) وقوله تعالى (إن الله وملائكته يصلون على النبي) أما الإيمان بهم إجمالا
فهو أن نعتقد أن لله ملائكة لا يوصفون بذكورة ولا بأنوثة، ولا يأكلون ولا يشربون
ولا ينامون ولا يتناكحون هم عباد مكرمون (لا يعصون الله ما ماأمرهم ويفعلون
مايؤمرون) (يسبحون الليل والنهار لايفترون) (وهم من خشيته مشفقون) ولا يعلم عددهم
إلا الله. وأماالذين تجب معرفتهم تفصيلا فهم (جبريل) أمين الوحي (وميكائيل) الموكل
بارزاق العالم (وإسرافيل) الموكل بالنفخ في الصور (وملك الموت) الموكل بقبض
الأرواح (ومنكر ونكيرُ) الموكلان بسؤال الميت في القبر، والملائكة الموكلون بكتابة
ما يصدر من العبيد. [ لكل واحد ملكان يوصف
كل منهما بأنه رقيب أي مراقب، وعتيد أي حاضر ] ( ومالك )
خازن النار ( رضوان ) خازن الجنان ) (
وحملة العرش ) الثمانية. فمن أنكر وجودهم
أو أنكر واحدا من هؤلاء المذكورين فهو كافر مخلد في النار قطعا. الا منكرا ونكيرا
للخلاف فيهما .[ وإنكارهما فسق وليس بكفر ] هذا ويجب إعتقاد ما وصفهم الله تعالى
به من أنهم عباد مكرمون : ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)
وأما
ما اشتهر من قصة هاروت وماروت وجعلهما ملكين يعلمان الناس السحر مع زيادة كذب
المؤخرين أنهما عوقبا ومسخا، فذلك كله كذب وزور وباطل لايحل إعتقاده ولاسماعه،
وإنما الذى يجب إعتقاده فيهما أنهما إن لم يكونا ملكين فالأمر واضح، وإن كانا
ملكين فتعليمهما السحر لم يكن لأجل العمل به، بل للتحرز منه بتعريف حقيقته، وبيان
شره وعقوبته،ولهذا أخبر الله تعالى أنهما ماكانا ( يعلمان من أحد حتى يقولا إنما
نحن فتنة فلا تكفر) وهذا كتعليم حقيقة الزنا وأنواع الربا ليتحرز المكلف عنها لأن
التحرز من الشر موقوف على معرفته ولهذا قال حذيفة رضي الله عنه : كان الناس يسألون
النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه
(الإيمان
بالجن)
ويجب
الإيمان بوجود الجن إجماعا لثبوت ذلك بالكتاب والسنة في مواضع أشهر من أن تذكر،
كقوله تعالى (وخلق الجان من مارج من نار)، وقوله تعالى: (يامعشر الجن والإنس)
وقوله تعالى (وإذا صرفناه إليك نفرا من الجن يستمعون القرأن) إلى غير ذلك. وهم
أجسام لطيفة تتشكل بأشكال مختلفة قادرة على الأعمال الشاقة، ومنهم المطيع والعاصي،
والمؤمن والكافر، ومنهم الشياطين شأنهم الشر والإغواء وإلقاء الناس في الفساد
بتذكير أسباب المعاصي واللذات.
(واعلم)
أنه لا يمتنع ظهور الملائكة والجن والشياطين على بعض الأبصار في بعض الأحوال
(الإيمان
بالعرش والكرسي واللوح والقلم )
ويجب
الإيمان بالعرش والكرسي واللوح والقلم.
(أما
العرش)
فهو جسم عظيم نوراني علوي محيط بجميع الأجسام، وهذا على القول بكرويته، ومشهور
السنة أنه قبة عظيمة يحمله الأن أربعة من الملائكة، ويحمله في الآخرة ثمانية لعظم
تجلى الحق سبحانه وتعالى [ ونمسك عن القطع بتعيين حقيقته لعدم العلم بها]
(وأما
الكرسي)
فهو جسم عظيم نوراني تحت العرش فوق السماء السابعة بينها وبينه من المسافة ما
لايعلمها إلا الله تعالى، ونمسك عن القطع بتعيين حقيقته أيضا، وعن أبي موسى وغيره
أنه لؤلؤة، وقال علي ومقاتل: كل قائمة من قوائم الكرسي طولها مثل السموات السبع
والأرضين.
(وأما
اللوح) فهو جسم نوارني كتب فيه القلم بإذن الله تعالى ما
كان وما يكون إلى يوم القيامة، وهو يكتب فيه الأن على التحقيق من أنه يقبل المحو
والإثبات.
(وأما
القلم)
فهو جسم عظيم نوراني خلقه الله وأمره بكتب ما كان وما يكون إلى يوم القيامة. وهذه
الأربعة قد خلقها الله تعالى لحكم وفوائد يعلمها الله سبحانه وتعالى، وإن قصرت
عقولنا عن الوقوف عليها، ولم يخلقها الله تعالى لاحتياج منه إليها، فلم يخلق العرش
لاستتاره به، كما يستر أحدنا بالسطح، ولا الكرسي للجلوس عليه، ولا اللوح والقلم
لحفظ ما غاب عن علمه تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
(
فصل )
ومما يجب إعتقاده أن الموت ينزل بكل ذي
روح لقوله تعالى (كل نفس ذائقة الموت)، وقوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون)
والأحاديث في ذلك كثيرة، ولأنه من الجائزات عقلا التى وردبها الشرع فوجب إعتقادها.
والموت
إنقطاع تعلق الروح بالبدن على النحو الذى كان في الدنيا، ومفارقة وحيلولة بينهما
وتبدل حال بحال، وانتقال من دار إلى دار. وفي خطبة عمر بن عبد العزيز (إنما خلقتم
للأبد ولكنكم تنتقلون من دار إلى دار) [ وصح ذلك عن عتبة بن غزوان الصحابي الجليل
وغيره] ومما يجب إعتقاده أن ملك الموت وهو عزرائيل يقبض الأرواح كلها بإذن الله
تعالى ولو براغيث لقوله تعالى: (قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم) ولما روى
الطبراني وغيره عن ملك الموت، (والله لوأردت قبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى
يكون الله هو الذى يأذن بقبضها)
وذكر
بعضهم أن الله تعالى هو الذى يقبض روح ملك الموت وأرواح الشهداء، وأن مثل ذلك من
قرأ دبر كل فريضة أية الكرسى، وكذا أهل الجوع في الدنيا، وذكر في ذلك حديثا (فإن
قلت) جاء في القرأن إسناد التوفي إلى الله وإلى الملائكة، قال تعالى (الله يتوفى
الأنفس حين موتها)، وقال الله تعالى (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا)
فالجواب أن إضافة التوفي إلى الله تعالى لأنه هو الفاعل حقيقة اي الخالق للفعل،
والى ملك الموت لأنه المباشر للقبض، وللملائكة لأنهم أعوانه. (فإن قيل) إذا مات
خلق كثير في أماكن متعددة فكيف يتولى قبض الجميع؟ (قلت) إن الدنيا بين يديه
كالقصعة بين يدي الآكل يأخذ منها ما شاء. فعن أنس بن مالك قال، لقي جبريل ملك
الموت بنهر فارس، فقال، ياملك الموت كيف تستطيع قبض الأنفس عند الوباء، كهنا عشرة
ألاف وههنا كذا وكذا ؟ فقال له ملك الموت، تزوى لي الأرض حتى كأنهم بين فخذي
فالتقطهم بيدي و(عزرائيل) بالعربية معناه
عبد الجبار وهو ملك عظيم هائل المنظر مفزع جدا، والخلق بين عينيه وله أعوان عديدون،
يترفق بالمؤمن ويأتيه في صورة حسنة دون غيره، ومجئ الموت والعبد على عمل صالح يكون
سهلا، ويسهله أيضا السواك فيما ذكره جماعة واستدلوا بحديث عائشة في الصحيحين في
قصة سواكه صلى الله عليه وسلم عند موته، ومما يسهل الموت وجميع ما بعده من الأهوال
ما ذكره المحقق السنوسي وغيره، ركعتان ليلة الجمعة بعد المغرب يقرأ فيهما بعد
الفاتحة سورة الزلزلة خمس عشرة مرة
(وجوب
إعتقاد الأجل)
ومما
يجب إعتقاده أن أجل كل ذي روح بحسب علم الله واحد لا تعدد فيه، وأن كل مقتول لم
يمت إلا بحسب انقضاء أجله في الوقت الذى علم الله تعالى أزلا 0حصول موته فيه، وأنه
لو لم يقتل لمات في ذلك الوقت قال تعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا
يستقدمون) واعلم أن الروح مما استأثر الله تعالى بعلمه، ولم يطلع عليه أحدا من
خلقه، قال تعالى (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) اي مما إستأثر الله
بعلمه إظهارا لعجز المرء حيث لم يعلم حقيقة نفسه التى بين جنبيه مع القطع بوجودها.
فيرد
العلم اليه سبحانه وتعالى مع الإقرار بالعجز عن إدراك ما لم يطلع الله عليه، ولم
يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا حتى أطلعه الله تعالى على جميع ماأبهمه
علينا إلا أنه امره بكتم البعض، والإعلام بالبعض الأخر، فالأولى الكف عن الخواص في
حقيقة الروح ولا يجوز البحث عنها بأكثر من
أنها موجودة لقوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم) وهذه طريقة ابن عباس وأكثر
السلف،
ويجري
عليها الوقف عن الجزم بمحل مخصوص لها من البدن. وهناك فرقة ثانية تكلمت فيها وبحثت
عن حقيقتها . قال النووي : وأوضح ما قيل فيها على هذه الطريقة ما قاله إمام
الحرمين : إنها جسم لطيف شفاف حي لذاته مشتبك بالأجسام الكثيف إشتباك الماء بالعود
الأخضر،
(وجوب
الإعتقاد بأن علي العباد حفظة يكتبون أعمالهم)
ومما
يجب إعتقاده أن على العباد من وقت التكليف حفظة يكتبون أعمالهم وأقوالهم حتى
المباح والأنين في المرض، وعمل القلب يجعل الله لهم علامة عليه يميزون بها بين
حسنة وسيئة، وهي رائحة طيبة تحصل عند صدور الحسن عن القلب ورائحة خبيثة تحصل عند
صدور السيئ فقد سئل سفيان كيف تعلم الملائكة أن العبد هم بحسنة أو سيئة فقال : إذا
هم بحسنة وجدوا ريح المسك، وإذا هم بسيئة وجدوا ريح النتن اه.
والأصل
في ذلك قوله تعالى: (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون): ووردت
بذلك السنة وانعقد الإجماع عليه، فوجب إعتقاده، فمن كذب به أو شك فيه فهو كافر،
ولكل عبد ملكان أحدهما يكتب الحسنات، والأخر يكتب السيئات، والأول أمير على الثاني
لايمكنه من كتب السيئة إلا بمضي ساعات من غير توبة أوغيرها من المكفرات، فإن إستغفر في أثنائها كتبها كاتب
الحسنة حسنة واحدة، وإن لم يحصل إستغفار ولا غيره قال لكاتب السيئات: اكتب أراحنا
الله منه، ولايفارقان العبد في مدة حياته إلا عند الخلاء وعند الجماع، ولذا طلبت
الإستعاذة عند الأول والبسملة عند الثاني، فإذا مات المؤمن قعد ملكاه على قبره
يستغفران له إلى يوم القيامة، وإذا مات الكافر قعد ملكاه يلعنانه إلى يوم القيامة
(فإن قلت) قد علمنا أن الله تعالى غني عن ذلك (قلت) فائدة الكتابة: أحدهما دنيوي، وهو
الإنكفاف عن المعاصي في دار الدنيا، لأنهم إذا علموا أن ملائكة تحفظ عليهم أفعالهم
ويكتبونها إنزجروا عن المعاصي .والأخر أخروي وهو إقامة الحجة عليهم في الأخرة إذا
أنكروا وقالوا ما عملنا.
(وجوب
الإعتقاد بسؤال منكر ونكير للميت)
ومما
يجب إعتقاده سؤال منكر ونكير في القبر للميت، وذلك بعد تمام الدفن وعند انصراف
الناس، يعيد الله تعالى الروح إلى الميت جميعه كما قال الجلال السيوطي :
وكله
يحيا لدى الجمهور * لاجزؤه لظاهر المأثور
ويرد الله تعالى اليه من حواسه وعقله
وعلمه ما يقدر به على فهم الخطاب ورد الجواب حين يسألانه. روى الشيخان عن أنس
مرفوعا (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه أتاه ملكان فيقعدانه فيقولانه
له : ما كنت تقول في هذا النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه
عبد الله ورسول الله. فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا
في الجنة فيراهما جميعا. وأما الكافر أو المنافق فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول
الناس. فيقال له لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطرقة من حديد ضربة يصيح منها صيحة
يسعها من يليه الا الثقلين" وعند أبي داود " فيقولانه له من ربك وما
دينك وماهذا الرجل الذى بعث فيكم؟ فيقول المؤمن : ربي الله وديني الإسلام والرجل
المبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول الكافرفي الثلاث : لا أدري " انتهى
.
وإنما
يقولون هذا الرجل من غير تعظيم لأن مرادهما الفتنة ليتميز الصادق في الإيمان من
غيره، فالأول يجيب والثاني يقول : لوكان لهذا الرجل القدر الذى كان يدعيه في
رسالته عند الله تعالى ماكان هذا الملك ينبئ عنه بمثل هذه الكناية وعند ذلك يقول:
لا أدري، والعياذ بالله تعالى فيشقى شقاء الأبد، ويسألان كل ميت بلغته على الصحيح،
ويسألان الميت ولو تمزقت أعضاؤه او أكلته السباع أو ذري في الريح، إذ قدرة الله
تعالى صالحة لإعادة الروح في أعضائه ولوكانت متفرقة ولا بعد في ذلك.
واعلم
أن أحوال المسؤلين مختلفة فمنهم من يسألان جميعا تشديدا، ومنهم من يسـأله أحدهما
تخفيفا. وإذا مات جماعة في وقت واحد بأقاليم مختلفة جاز أن الله تعالى يعظم جسميهما
ويخاطبانهما مخاطبة واحدة.
وقال
الحافظ السيوطي: يجوز أن تكون ملائكة السؤال جماعة كثيرة ويسمى بعضهم منكرا وبعضهم
نكيرا فيبعث إلى كل ميت اثنان منهم و هذا وليس السؤال عاما لكل واحد، بل يستثنى من
ورد الأثر بعدم سؤالهم كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكالصديقين والشهداء
والمرابطين والملازمين لقراءة (تبارك، الملك) كل ليلة من حين وصول الخير اليهم
سواء قرأها الشخص عند نومه أوقبله، ومن قرأ في مرض موته (سورة الإخلاص) ومن مات
بمرض بطنه، والميت في زمن الطاعون صابرا محتبسا سواء طعن أم لم يطعن. والميت ليلة
الجمعة أو يومها ولو لم يدفن إلا يوم السبت مثلا، والمجنون الذى لم يسبق له تكليف
والأبله
(وحكمة)
السؤال إظهار الله تعالى ما كتمه العباد في الدنيا من إيمان أو كفر أوطاعة أومعصية،
فيباهى الله تعالى بالمؤمنين الملائكة، ويفضح غيرهم، والعياذ بالله "
(وجوب
الإعتقاد بعذاب القبر و نعيمه)
ومما
يجب إعتقاده عذاب القبر ونعيمه، أما عذابه فلحديث "عذاب القبر حق"
رواه الشيخان وفي التنزيل "النار يعرضون عليها غدوا وعشيا" أي في القبر
بدليل (ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) [وقال تعالى ( ولوترى إذ الظالمون في غمرات
الموت والملائكة باسطوا أيدهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون) الأية.
والمراد
أنهم باسطوا أيديهم اليهم بالضرب يضربون وجوههم وأدبارهم قائلين لهم اليوم الخ،وقد
إحتج بها البخاري على عذاب القبر في صحيحه أي الوقت الممتد من الموت إلى مالانهاية
له ] وقد روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان
وما يعذبان في كبير (أي تركه) كان أحدهما لا يستبرئ من بوله، وكان الآخر يمشي
بالنميمة "وروى الطبراني حديث"
تنزهوا
عن البول فإن عامة عذاب القبر منه و أخرج
ابن ابي شيبة و بن ماجة عن أبي سعيد الخذري قال سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم
يقول: يسلط الله على الكافر في قبره تسعة وتسعين تنينا تنهشه وتلدغه حتى تقوم
الساعة لو أن تنينا منها نفخ على الأرض ما أنبتت خضراء (والتنين نوع من الحيات) وعذاب القبر للروح
والبدن ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تفرقت أجزاؤه أو أكلته السباع أوحيتان البحر
أو نحو ذلك، لإن ذلك أمر ممكن عقلا وقد ورد به الشرع فوجب إعتقاده وقبوله (إن الله
يفعل ما يشاء) (وهو على كل شئ قدير)
ثم
العذاب قسمان: دائم وهو عذاب الكفار والمنافقين وبعض العصاة ومنقطع وهو عذاب من
خفت جرائمه من العصاة، فإنهم يعذبون بحسبها ثم يرفع عنهم بدعاء أو قراءة قرآن
أوصدقة أوغير ذلك ومن لايسأل في قبره لايعذب فيه أيضا
(تنبيه)
من
عذاب القبر ضغطته وهي إلتقاء حافتيه على جسد الميت ولا ينجو منها أحد ولوكان صغيرا
سواء كان صالحا أوطالحا إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفاطمة بنت أسد أم على
بن أبي طالب رضي الله عنها ومن قرأ سورة الإخلاص في مرض موته كما أخبربه النبي
عليه الصلاة والسلام (فإن قلت) ماالسر في سلامة فاطمة بنت أسد من ضغطة القبر؟
(قلت) حصول بركة المصطفي صلى الله عليه وسلم لها وذلك أنه كفنها في قميصه ونزل
قبرها واضطجع فيه ودعا لها فقال: "اللهم ارحم أمي فاطمة بنت أسد ووسع مدخلها
بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي" (الحديث
رواه الطبراني وغيره) وقد ورد أن ضغطة القبر كالأم الشفيقة يشكو اليها إبنها
الصداع فتغمز رأسه غمزا خفيفا، هذا بالنسبة للطائع، وأما العاصي ولومؤمنا فقد يضغط
حتى تختلف أضلاعه، نسأل الله السلامة بمنه وكرمه أمين، وأما نعيم القبر فلما ورد
فيه من النصوص التى بلغت مبلغ التواتر، وهو للروح والبدن أيضا بعد إعادتها فيه
ولايختص بموتى هذه الأمة ولابالمكلفين.
ومن
نعيمه توسيعه سبعين ذراعا عرضا وكذا طولا وفتح طاقة فيه إلى الجنة، وامتلاؤه
بالريحان وجعله روضة من رياض الجنة، وجعل قنديل فيه فينور له قبره كالقمر ليلة
البدر. وفي الأثر أوحي الله تعالى إلى سيدنا موسى على نبيينا وعليه أفضل الصلاة
والسلام : تعلم الخير وعلمه الناس فإنى منور لمعلم العلم ومتعلمه قبورهم حتى لا يستوحشوا لمكانهم. وعن
عمر رضي الله تعالى : " من نوّر مساجد الله نور الله له في قبره "
( تنبيه )
إنما
أضيف العذاب والنعيم إلى القبر لأنه الغالب وإلا فكل ميت أراد الله تعالى عذابه أو
نعيمه ناله ما أراده له قبر أو لم يقبر. أو يقال قبر كل ميت بحسبه (فإن قيل) نحن
نرى الميت بعد دفنه على حاله ونعلم بالضرورة أنه ميت سواء كان كافرا أومؤمنا عاصيا
أو طائعا فما معنى كونه يعذب أوينعم في قبره بعد إعادة الروح فيه ؟ (قلنا) هذا
لايصدر إلا ممن كان قلبه غير مطمئن بالإيمان بما أخبرنا به الصادق الأمين، ومن سلم
إختصاص الرسل برؤية الملك دون القوم، وتعاقب الملائكة فينا، وقوله تعالى في إبليس
وجنوده: (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لاترونهم) لايشك في صدق ذلك، كيف والنائم
يدرك أحوالا من السرور والغموم والألام من نفسه كما يتفق أنه رأى حية تلدغه ويتألم
ويصيح من ذلك ويعرق جبينه وينزعج من مكانه كل ذلك يدركه ويتأذي به كما يتأذي به
اليقظان ونحن بجواره لانشعر بشئ من ذلك. وذلك أن القبر أول منزل من منازل الأخرة
وكل مايتعلق بالأخرة فهو من عالم الملكوت وهذه العين التى نشاهد بها لاتصلح
لمشهادة الأمور الملكوتية، أما ترى الصحابة رضي الله تعالى عنهم كيف كانوا مؤمنين
بنزول جبريل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وما كانوا يشاهدونه، وآمنوا بأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاهده فإن لم تؤمن بهذا فعليك أن تجدد إيمانك برسول
الله الله عليه وسلم وبالوحي إليه. وإن كنت آمنت فكيف لا تؤمن بوقوع ماذكر للميت
مع أنه لافرق بين الأمرين.؟ سنأل الله تعالى أن يجعلنا ممن آمن به وبملائكته وكتبه
ورسله واليوم الآخر، وأن يختم لنا بخاتمة السعادة ويحفظنا من الزيغ والضلال إنه
كريم رحيم.
(الشهداء
أحياء في قبورهم)
ومما
يجب إعتقاده أن الشهداء أحياء
في قبورهم حياة كاملة لقوله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل
الله
أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون).
وأن
حياتهم حقيقة لظاهر الأية فإنهم يرزقون مما يشتهون كما ترزق الأحياء بالأكل والشرب
ونحو ذلك . قال الجزولى: وحياتهم غير مكيفة ولامعقولة للبشر ويجب الإيمان بها
والكف عن الخوض في كيفيتها، والمراد بهم المؤمنون المقتولون في حرب الكفار لإعلاء
كلمة الله تعالى
(وجوب
اعتقاد يوم القيامة)
ومما
يجب إعتقاده أن الساعة وهي القيامة أتية بعد انقراض الدنيا لاريب فيها لقوله تعالى
: (وأن الساعة آتية لاريب فيها) وقوله تعالى (وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا)
(وأولها
من النفخة الثانية) إلى أن تستقر الناس في الدارين الجنة
والنار، ولا يعلم وقت مجيئها إلا الله تعالى، لكن لها علامات صغرى وكبرى
(أما
الصغرى) فكثيرة منها بعثته صلى الله عليه وسلم وظهور أمته و عد الخائن أمينا، والأمين
خائناو والتطاول في البنيان وزخرفة المساجد، وكثرة الجهل ،وقلة العلم، وإمارة
الصبيان وكثرة النساء وقلة الرجال حتى يكون للخمسين امرأة قيم واحد وكثرة الزنا، وشرب
الخمر والربا والفتن بين المسلمين من العدو ثم القحط وكل ذلك نطقت به صحاح
الأحاديث
(وأما
الكبرى) فأولها خروج المهدي وهو رجل عظيم الشأن من ولد فاطمة رضى الله عنها، يملأ
قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا. وأخرج الروياني في مسنده وابو نعيم عن حذيفة قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المهدي رجل من ولدي لونه لون عربي وجسمه
جسم إسرئيلي على خده الأيمن خال كأنه كوكب دري يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا يرضى
في خلافته أهل الأرض وأهل السماء حتى الطير في الجو" وروي أحمد وأبوداود
والترمذي عن أبي مسعود قال : قال رسول الله صلى عليه وسلم : لا تذهب الدنيا ولا تنقضى حتى يملك رجل من
أهل بيتى يواطئ اسمه اسمى. وفي رواية " وخلقه خلقي "
(وثانيها)
خروج الدجال آخر الزمان، يبتلى الله به عباده ويقدره على أشياء تدهش العقول وتحير
الألباب يغتر بها بعض العباد ويثبت الله من سبقت له السعادة ومن أمارات قرب خروجه
قلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسفك الدماء، وركون العلماء إلى الظلمة، والتردد
إلى أبواب الملوك ويخرج من ناحية المشرق من قرية من قرى أصبهان يقول للسحاب : أمطر
فيمطر ويأمره بالإمساك فيمسك ويمكث الأرض أربعين يوما، ففي الحديث " قلنا :
يارسول الله وما لبثه في الأرض ؟ قال : أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة
وسائر أيامه كأيامكم، قلنا : فذلك اليوم الذى كسنة تكفينا فيه صلاة يوم؟ قال، لا. اقدروا
له قدره " الحديث .
(
وثالثها )
نزول عيسى عليه الصلاة والسلام على المنارة البيضاء شرقي دمشق فينزل واضعا حالة
نزوله كفيه على أجنحة ملكين وقت صلاة الصبح فيدعوه الناس للصلاة بهم فيمتنع ويقول
: إمامكم منكم، فيتقدم المهدي فيصلى إماما به وبهم إكراما لهذه الأمة ولنبيها عليه
الصلاة والسلام، وحينئذ يكون الدجال محاصرا أهل بيت المقدس وبابه مغلق فيقول: افتحوا
الباب فيفتحونه، فيراه الدجال فيولى هاربا هو ومن معه، فيخرج عيسى والمهدي في طلبه
فيضيق الله عليه الأرض فيلحقه عيسى ومن معه على بضعة عشر ذراعا عند باب (لد) قرية
قريبة من الرملة، فإذا نظر إليه عيسى عليه السلام يقول: أقم الصلاة، فيقول الدجال:
يانبي الله قد أقيمت، فيقول: ياعدوالله إنك زعمت أنك رب العالمين فلمن تصلى؟
فيضربه بحربة فتنفذه ويخرجها وقد تلوثت بدمائه ويقول: يامعشر المسلمين انظروا. ويحكم
بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويكثر الأمن في زمنه والخصب والرخاء والبركة،
ويمكثون على هذه الحالة أربعين سنة ويتزوج عيسى ويولد له ولدان ويموت المهدي ويصلى
عليه عيسى ويدفنه ببيت المقدس، ثم يموت عيسى بالمدينة ويدفن بجوار أبى بكر الصديق
رضي الله عنه
(ورابعها)
خروج يأجوج ومأجوج وهم من ولد يافث بن نوح عليه السلام. وهم فرقة كثيرة مختلفة،
وبعد خروجهم للفساد يوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام إنى أخرجت عبادا لا يد –
أي لا قدرة - لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور فينحاز بهم في الطور و يرسل الله
تعالى يأجوج ومأجوج من كل حدب ينسلون - اي يسرعون - ويحاصرون عيسى ومن معه في
الطور. ويأتون إلى بيت المقدس فيقولون : قد قتلنا اهل الدنيا فقاتلوا من في السماء، فيرمون نشابهم فترد محمرة دما،
ثم إن عيسى ومن معه يبتهلون بالدعاء إلى الله تعالى فيجيبهم ويرسل على يأجوج
ومأجوج النغف - كسبب - في رقابهم. وهو دود في أنوف الإبل والغنم فيصبحون موتى ثم
يهبط عيسى ومن معه إلى الأرض فلا يجدون موضعا إلا ملأته رممهم، فيرسل طيرا أعناقها
كأعناق البخت فتطرحهم حيث شاء الله
(وخامسها)
خروج الدابة قيل: هي فصيل ناقة صالح عليه السلام لما عقرت أمها هربت وانفتح لها
حجر، فدخلت فيه، فانطبق عليها وهي فيه إلى وقت خروجها لايدركها طالب ولا يفوتها
هارب يراها أهل كل جهة في جهتهم وتكتب بين عيني المؤمن مؤمنا فيضئ وجهه، وبين عينى
الكافر كافرا فيسود وجهه، وتنادي للمسلم يا مسلمو وللكافر ياكافر، قال تعالى (وإذا
وقع القول عليهم) أي إذا قرب وقوع القول بهم، وهو ما وعدوا به من البعث والعذاب
(أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم) ببطلان الأديان ما عدا دين الإسلام و وتقول يا فلان،
أنت من أهل الجنة، ويا فلان أنت من أهل النار (أن الناس كان بآياتنا لا يوقنون)
أخرجناها للناس لعدم إيقانهم بآياتنا .
(وسادسها)
طلوع الشمس من مغربها وهو بعد موت عيسى عليه السلام. وروي أنها حين تغرب تمسك عن
ظهورها ليلة طويلة قدر ثلاث ليال، وتقدر أوقات العبادة فيها بالاجتهاد، وتفزع
الناس من طول تلك الليلة. وعن أبى ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم حين غربت الشمس " أتدرون أين تذهب هذه؟ قلت : لا، الله ورسوله
أعلم، قال : فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا
يقبل منها، وتسـتأذن فلا يؤذن لها فيقول لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها، فعند
ذلك يغلق باب التوبة " ،[ رواه الشيخان وغيرهما ]
(
وسابعها )
خروج دخان يملأ الأرض، ويخرج من أنف الكافر وعينه وأذنه وفمه ودبره، ويصيب المؤمن
منه كهيئة زكام، ويمكث أربعين يوما
(
وثامنها )
نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى الشام تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث
باتوا
(
وتاسعها )
رفع القرآن والعلوم النافعة من السطور والصدور، ورجوع أهل الأرض كفارا.
(
وعاشرها )
انهدام الكعبة على أيدي الحبشة]،
(وجوب
الايمان بالنفخ في الصور)
ومما
يجب الإيمان به " النفخ في الصور. قال تعالى (ونفخ في الصور) وهو قرن ينفخ
فيه إسرافيل (فصعق) اي خر ميتا من كان من الأحياء وقتئذ، أو مغشيا عليه من كان قد
مات، وهم الأرواح التى في البرزخ وهذه هي
النفخة الأولى. (من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ) [ وهم جبريل
وميكائيل وإسرافيل وملك الموت فإنهم لا يموتون عند النفخة كغيرهم من الملائكة، بل
يموتون بعدها، ويحيون قبل النفخة الثانية، وحملة العرش، وخزنة الجنة والنار، والحور
والولدان والشهداء، فإنهم يكونون في شغل بنعيمهم عن هول تلك النفخة، هذا] - وقوله
تعالى ( كل شئ هالك إلا وجهه ) إن كان المراد بالهلاك فيه قابلية الفناء بالذات
فالعموم على ظاهره، لأن كل ماعداه تعالى ممكن الوجود قابل للعدم، وإن كان المرد
به عدم الإنتفاع به بالإماتة أو تفريق
الأجزاء، [ استثنى منه العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار ومن فيهما
والأرواح ] ( ثم نفخ فيه أخرى ) وهي النفخة الثانية، وذلك بعد أن يأمر الله السماء
أن تمطر فينزل منها ماء فينبتون منه كما ينبت البقل. وبين النفختين أربعون سنة
"
(وجوب
الاعتقاد بيوم البعث)
ومما
يجب إعتقاده " أن الله تعالى يبعث جميع العباد فيحشرهم إلى الموقف الهائل
لفصل القضاء بينهم، وقد ثبت ذلك بالكتاب والسنة وإجماع السلف مع كونه من الممكنات
التى أخبر بها الشارع، فمن كذب به أوشك فيه فهو كافر، قال تعالى : ( وأن الساعة آتية
لاريب فيها وأن الله يبعث من في القبور) وقال تعالى (قال من يحيى العظام وهي رميم
قل يحييها الذى أنشأها أول مرة ) وقال تعالى ( كما بدأنا أول خلق نعيده) والبعث
عبارة عن إحياء الله تعالى الموتى وإخراجهم من قبورهم بعد جمعه تعالى الأجزاء
الأصلية، وهي التى من شأنها البقاء، والحشر عبارة عن سوقهم جميعا إلى الموقف، وهو
الموضع الذى يقفون فيه من الأرض المبدلة التى لم يعص الله تعالى عليها لفصل القضاء
بينهم ولا فرق بين من يجازى وهم الملك والإنس والجن، وما لايجازى كالبهائم
والوحوش. واعلم أن البعث والحشر للأبدان التى كانت في الدنيا بعينها لامثلها، وإلا
كان المثاب أوالمعذب غير الذى أطاع أوعصى وهو باطل بالإجماع
(
تنبيهان )
(الأول)
: أول من يبعث، ومن يرد المحشر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كما أنه أول من
يدخل الجنة
(الثاني)
مراتب الناس في الحشر متفاوتة فمنهم
الراكب وهو المتقي ومنهم الماشي على رجليه، وهو قليل العمل، ومنهم الماشي على وجهه
وهم الكفار.
(وجوب
الاعتقاد بيوم الحساب)
ومما
يجب إعتقاده أن الله تعالى يحاسب العباد على الأعمال خيرا كانت أوشرا قولا كانت
أوفعلا و تفصيلا بعد أخذ كتبهم، وهذا للمؤمن والكافر إنسا وجنا إلا من استثنى منهم،
ففي الحديث (وعدني ربى أن يدخل الجنة من أمتى سبعين ألفا، مع كل ألف سبعون ألفا لا
حساب عليهم ولاعذاب وثلاث حثيات من حثيات ربى) [أخرجه الترمذي وابن حبان في صحيحه
وغيرهما] والحثيات دفعات، أي أعطانى ما لا احصى له عددا، فهؤلاء يدخلون الجنة من غير
حساب، وهو ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلين . قال تعالى (والله سريع الحساب) .
وقال تعالى (إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم) وقال عمر رضي الله عنه : "
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا " وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم:
" لتؤدين الحقوق إلى أهلها حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء "
فمن كذب به أوشك فيه فهو كافر، وهو عبارة عن توقيف الله تعالى العباد قبل
انصرافهم من المحشر على أعمالهم بأن
يكلمهم في شأنها وكيفية مالها من الثواب وما عليها من العقاب، اي يرفع عنه الحجاب
ويسمعهم كلامه القديم أو صوتا يدل عليه
يخلقه تعالى في أذن كل واحد من المكلفين، قال تعالى: (فوربك لنسألنهم أجمعين عما
كانوا يعملون ) وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبين ربه ترجمان، فينظرأيمن منه
فلا يرى إلا ماقدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى
إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة " وقد ورد أن الكافر ينكر
وتشهد جوارحه
(
تنبيهان )
(الأول)
كيفية الحساب مختلفة، فمنه اليسير والعسيرو والسر والجهر، والفضل والعدل على حسب
الأعمال، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وأول من يحاسب هذه الأمة.
(الثاني)
حكمته إظهار تفاوت المراتب في الكمال وفضائح أصحاب النقص
(وجوب
الاعتقاد بصحيفة الأعمال)
ومما
يجب إعتقاده أن الأمم يؤتون صحائفهم وهي الكتب التى كتبت الملائكة فيها أعمالهم في
الدنيا يأخذها المؤمنون بأيمانهم والكفار بشمائلهم وقد ثبت ذلك بالكتاب والسنة
وإجماع أهل الحق، أما الكتاب فقوله تعالى: (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم
اقرأوا كتابيه إنى ظننت أنى ملاق حسابيه فأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتنى
لم أوت كتابيه و لم ادر ما حسابيه يا ليتها كات القاضية إي يقول الاول لأهل المحشر
فرحا هاؤم أي خذوا اقرأوا كتابيه إنى ظننت أي علمت أنى ملاق حسابية ويقول الثاني
لما يرى من سوء عاقبته: يا ليتنى لم اوت كتابيه و لم ادر ما حسابيه يا ليتها كانت
القاضية، أي ليت الموتة التي ماتها كانت القاضية أي القاطعة لأمره و لم يبعث بعدها
و قوله تعالى: فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف
يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا، وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف
يدعو ثبورا ويصلى سعيرا) فالكافر يأخذ كتابه بشماله وراء ظهره لما ورد أنه تغل
يمناه إلى عنقه، وتلوى يسراه إلى الى خلف ظهره فيعطى كتابه وقوله تعالى (وكل إنسان
ألزمناه طائره في عنقه) الأية. وأما السنة فقوله صلى الله عليه سلم"يعرض
الناس يوم
القيامة ثلاث عرضات فأما عرضان فجدال ومعاذير
فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله أخرجه الترمذي
(
تنبيهات )
الأول:
كل إنسان يأخذ كتابه إلا الأنبياء ومثلهم الملائكـة لعصمتهم ومن يدخـل الجنـة بغيـر حساب
ورئيسهم
أبوبكر الصديق رضي الله عنه .
الثاني:
إذا مات العبد جعل كتابه في خزانة تحت العرش فإذا كان الناس في الموقف بعث الله
ريحا فتطير الكتب من تلك الخزنة وتلزمها الأعناق فلا يخطئ كتاب عنق صاحبه ثم
تناديهم الملائكة فتأخذها من أعناقهم وتعطيها لهم في أيديهم فإذا آخذ المؤمن كتابه
وجد حروف كتابه نيرة أومظلمة بحسب أعماله، وإذا آخذه الكافر وجدها مظلمة، ويقال
(اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا.) فإذا قرأه المؤمن ابيض وجهه كما يسود
وجه الكافر قال تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه )
الثالث
كل واحد يقرأ كتابه ولوكان أميا قراءة حقيقية
(جزاء
الأعمال)
ومما
يجب اعتقاده أن السيئة تقابل بمثلها إن قوبلت، وأن الحسنة تقابل بضعفها لقوله
تعالى ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها
ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ) وذلك بمحض فضله وكرمه.
والمضاعفة
أنواع، قسم يضاعف إلى عشرة وهو عمل البدن كالذكرو ودليله الأية المذكورة، وقوله
صلى الله عليه وسلم : من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها
لا أقول ألم حرفا ولكن أقول ألف حرف، ولام حرف وميم حرف، رواه الترمذي وقال حسن
صحيح.
وقسم
يضاعف بخمسة عشر ففي الحديث "صم يومين ولك أجر ما بقي" أي من الشهر فالحسنة بخمسة عشر،
وقسم
بثلاثين ففي الحديث صم يوما ولك أجر ما بقى (أخرجهما مسلم) فالحسنة بثلاثين.
وقسم
بخمسين، ففي الحديث "من قرأ القرأن فأعربه فله بكل حرف خمسون حسنة"،
والمراد بإعراب القرأن معرفة معاني ألفاظه، وليس المراد به ما قابل اللحن، لأن
القراءة مع اللحن ليست بقراءة ولا ثواب عليها،
وقسم
بسبعمائة وهونفقة الأموال في سبيل الله . قال تعالى : ( مثل الذين ينفقون أموالهم
في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة)
وقسم
لاينحصر وهو عمل القلب كالصبر قال نعالى ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ).
(ومما
ينبغي أن يعلم ) أن مراتب التضعيف متفاوتة بحسب ما يقترن بالحسنة من الإخلاص وحسن
النية، وهو ظاهر
(العفو
و غفران الذنوب)
ومما
يجب إعتقاده أن الله يعفو تفضلا منه عن كبائر السيئات بسبب التوبة عنها ويغفر
الصغائر باجتناب الكبائر، قال تعالى : (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم
سيئاتكم).
(وجوب
الاعتقاد بأن من مات ولم يتب من الكبائر غير الكفر فهو تحت مشيئة الله)
ومما
يجب إعتقاده أن من مات ولم يتب من الكبائر غير الكفر فهو تحت مشيئة الله عز وجل إن
شاء عاقبه بعدله، وإن شاء غفر له بفضله، قال تعالى (إن الله لايغفر أن يشرك ويغفر
ما دون ذلك لمن يشاء)
(تعذيب
العصاة)
ومما
يجب إعتقاده تعذيب بعض غير معين عندنا من عصاة هذه الأمة ارتكب كبيرة من غير تأويل
يعذر به ومات ولم يتب، لورود ذلك شرعا، والمراد بهذه الأمة أمة الإجابة وهم
المؤمنون، فلا بد أن يكون البعض المعذب منهم ومع كون الوعيد ينفذ في بعض العصاة
فلا يخلد في النار قطعا، بل يخرج منها ويدخل الجنة، ويخلد فيها بخلاف الكفار، فإنهم
مخلد في النار.
والحاصل
أن الناس على قسمين : مؤمن وكافر فالكافر مخلد في النار أبدا.
والمؤمن
على قسمين طائع وعاص، فالطائع في الجنة قطعا،
والعاصي
على قسمين : تائب وغير تائب، فالتائب في الجنة قطعا وغير التائب في المشيئة وعلى
تقدير عذابه لايخلد في النار
(هول
القيامة)
ومما
يجب إعتقاده أن هول الموقف حق وهو ما ينال الناس فيه من الشدائد والمصائب، كطول
الوقوف وإلجام العرق الناس حتى يبلغ آذانهم ويذهب في الأرض سبعين ذراعا ودنو الشمس
من الرؤوس حتى لايكون بينها وبين رؤوس الخلائق إلا قدر الميل، وتطاير الكتب وأخذها
بالأيمان والشمائل، ولزومها الأعناق، والمسئلة وشهادة الألسنة والأيدي والأرجل
والسمع والبصروالجلود والأرض والليل والنهار والحفظة الكرام، وتغير الألوان، قال
تعالى : (يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات
حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) وقال تعالى (يوم
يجعل الولدان شيبا) وقال تعالى (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) ولكن لا ينال شئ من ذلك
الأنبياء ولا الأولياء وسائر الصلحاء لقوله تعالى ( تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا
ولا تحزنوا) الآية وقوله تعالى ( لايحزنهم الفزع الأكبر ) وخوف الأنبياء والملائكة
يومئذ خوف إجلال وإعظام وإن كانوا آمنين من عذاب الله عز وجل. وبالجملة فالأمر
مختلف باختلاف الناس . اللهم خفف عنا أهواله بفضلك ياكريم
(
فائدة )
قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لاظل إلا ظله :
إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى ،ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى
يعود اليه ،ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خاليا
ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال إنى أخاف الله ورجل تصدق بصدقة
فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق
يمينه.[ روه البخاري ومسلم وغيرهما ]
(الميزان)
ومما
يجب إعتقاده أن وزن أعمال العباد حق، وأن الميزان حق قال الله تعالى : (والوزن
يومئذ الحق) وقال الله تعالى (ونضع الموازين بالقسط ليوم القيامة) وقال الله تعالى
(فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم)
وهو ميزان حسى له لسان وكفتان أحدهما نيرة وهي اليمنى المعدة للحسنات والأخرى مظلمة
وهي اليسرى المعدة للسيئات. وأما الموزون فهو صحف الأعمال لحديث (إن الله يستخلص
رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعين سجلا كل سجل
منها مد البصر فيقول :اتنكر من هذا شيئا ؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول : لا يارب،
فيقول ألك عذر فيقول : لا يارب، فيقول : ألك حسنة ؟ فيقول : لا يارب، فيقول بلى إن
لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك فتخرج بطاقة فيها أشهد ان لاإله إلا الله وأشهد أن
محمدا عبده ورسوله فيقول أحضر وزنك، فيقول : يارب ماهذه البطاقة مع السجلات فيقول
: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت
البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شئ) [ رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي ]. ويؤخذ
منه أن ثقل الميزان على الوجه المعروف في الدنيا خلافا لمن زعم العكس .
(
تنبيه )
حكمة
الوزن وإن كان الله تعالى عالما بكل شئ امتحان الله تعالى العباد بالإيمان به في
الدنيا وجعل ذلك علامة لأهل السعادة والشقاوة في الأخرى.
(الحوض)
ومما
يجب إعتقاده أن حوض نبيينا محمدا صلى الله عليه وسلم حق وهو جسم مخصوص كبير متسع
الجوانب، ترده أمته بعد خروجهم من قبورهم عطاشا، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن
عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعا (حوضى مسيرة شهر وزواياه سواء ماؤه أبيض من
اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه أكثر من نجوم السماء من شرب منه فلا يظمأ أبدا)
وفيما
أوحى الله إلى عيسى عليه الصلاة والسلام من صفة نبيينا صلى الله عليه وسلم له حوض
أبعد من مكة إلى مطلع الشمس فيه آنية مثل عدد نجوم السماء وله لون كل شراب الجنة
وطعم كل ثمار الجنة. وقد ورد تحديده بجهات مختلفة في البعد في روايات متعددة ولا تنافي
في ذلك لأن الله تعالى تفضل عليه باتساعه شيئا فشيئا فأخبر صلى الله عليه وسلم
بالمسافة القصيرة أولا ثم أخبربالطويلة،
وأشار
الإمام النووي رضي الله عنه إلى أن الإعتماد على ما يدل على أطولها مسافة . وقد
ورد أن أطفال المسلمين حوله،وعليهم أقبية الديباج ومناديل من نور وبأيديهم أباريق
من فضة وأقداح من ذهب يسقون أبائهم وأمهاتهم الذين صبروا عند فقدهم، وأما الذين
سخطوا فلايؤذن لهم في سقيهم
(
واعلم ) أن ورود الحوض ليس عاما لحميع الأمة بل هو خاص بمن تمسك بشريعته صلى الله
عليه وسلم ولم يبدل ولم يغير ولم يتخذ عقيدة
غيرما عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بخلاف من غير بدل فإنه يطرد عنه
كالمرتد والمخالف لجماعة المسلمين كالخوارج والروافض والمعتزلة على اختلاف فرقهم، والظلمة الجائرين
والمعلن بالكبائر المستخف بالمعاصي وأهل الزيغ والبدع والكفار، ففي مسلم ( ترد
أمتي على الحوض وأنا أذود الناس كما يذود الرجل إبل الرجل من إبله، قالوا يارسول
الله أتعرفنا؟ قال نعم لكم سيم ليست لأحد غيركم تر دون علي غرا محجلين من أثار
الوضوء وليصدن عنى طائفة منكم فلا يصلون إلى، فأقول : يارب أصحابي أصحابي، فيقول :
هل تدري ما أحدثوا بعدك؟ [نعم المغير بغير الكفر كالمبتدع الذى لم يكفر ببدعته
يشرب منه بعد الرد، أما الكافر فلا يشرب منه أبدا ]
(
فائدة )
روى
الترمذي مرفوعا : إن لكل نبي حوضا وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة وأنا أرجو أن
أكون أكثرهم واردة،
(الصراط)
ومما
يجب إعتقاده أن الصراط حق وهو جسر ممدود على متن جهنم يرده الأولون والأخرون أرق
من الشعرة وأحد من السيف وأوله في الموقف وأخره عند مرج أي فضاء، وفيه درج يصعد
عليها إلى باب الجنة وطوله ثلاثة ألاف سنة، الف صعود وألف هبوط وألف استواء.
وذكرالحافظ
ابن حجر في شرحه فتح الباري على صحيح البخاري : أن طوله خمسة عشر ألف سنة اهـ .
وله كلاليب في حافتيه مثل شوك السعدان، وهو نبت معروف، والملائكة صافون يمينا
وشمالا يخطفونهم بهذه الكلاليب، والدليل عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: ( فلا
اقتحم العقبة) قال مجاهد والضحاك: العقبة الصراط يضرب على جهنم، والمعنى هلا علا
العقبة، أي أنفق ماله فيما يجوز به العقبة من فك الرقاب الخ. وفي مسلم مرفوعا :
يضرب الصراط بين ظهرانى جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجوزه ولا يتكلم يومئذ إلا
الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم، ووقت المرور عليه بعد الحساب، فمن تعداه
نجا جعلنا الله من الناجين أمين. والناس متفاوتون في النجاة فمنهم السالم من
الوقوع في نار جهنم ومنهم الواقع فيها إما على التأبيد والدوام وهم الكفار
والمنافقون، أو إلى مدة يريدها الله تعالى ثم ينجون وهم بعض عصاة المؤمنين وسرعة
النجاة بقدر الأعمال فأعلى الناجين هم أهل رجحان الأعمال الصالحة والسالمون من السيئات ممن خصهم الله بسابقة
الحسنى وهم الذين يجوزون كطرفة العين، وبعدهم الين يجوزون كالبرق الخاطف وبعدهم
الذين يجوزون كالريح العاصف وبعدهم الذين يجوزون كالطير، وبعدهم الذين يجوزن
كالجواد السابق ومنهم من يجوز سعيا ومشيا
ومنهم من يجوز حبوا، وبالجملة فعلى قدر الإستقامة على الصراط المعنوي في الدنيا
يكون الثبات والنجاة على الصراط الحسى في الأخرة ( اللهم اهدنا الصراط المستقيم
صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. أمين
(
فائدة )
الحكمة
فيه التحسر للكفار بفوز المؤمنين بعد اشتراكهم في العبور، وإظهار أن النجاة من
النار للمؤمنين من فضله ومنه فإنه بالمؤمنين رؤوف رحيم
(الكوثر)
ومما
يجب إعتقاده أن الكوثر حق وهو نهر في الجنة قال الله تعالى (إنا أعطيناك الكوثر)
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء والمعراج الصحيح: بينما أنا أسير في
الجنة إذ عرض لى نهر حافتاه قباب اللؤلؤ قلت: ياجبريل ماهذا ؟ قال : هذا الكوثر
الذى أعطاك الله ثم ضرب بيده إلى طينه فاستخرج مسكا، وقال في حديث ابن عمر :
الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت وتربته أطيب من المسك
وماؤه أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأبرد من الثلج، [ رواه أحمد وابن ماجه
والترمذي وقال حديث حسن صحيح ]
(الشفاعة)
ومما
يجب إعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلـم
يشفع
للعباد يوم القيامة وأنه تقبل شفاعته وأنه مقدم فيها على غيره من جميع الأنبياء
والمرسلين والملائكة المقربين، قال صلى الله عليه وسلم [ أنا أول شافع وأول مشفع
يوم القيامة ولا فخر، أخرجه الترمذي وغيره ]
وحديث الشفاعة متواتر معنى : وبيان ذلك انه إذا كان يوم القيامة يقوم الناس
من قبورهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ووجوههم شاخصين بأبصارهم سكارى وما هم بسكارى وقد اشتغل كل منهم بحال نفسه ثم يوكل
الله عز وجل بكل واحد ملكا يسوقه إلى الموقف
ومعه شاهد من نفسه وهو جملة أعضائه وجسده
ثم يؤتى بهم إلى أرض المحشر وهي أرض بيضاء كالفضة النقية أعدها الله تعالى
للحشر،
وإذا
اجتمع ألأولون والأخرون في صعيد واحد قربت الشمس من رؤوس الخلائق حتى تكون منهم
كمقدار ميل، ويزاد في حرها سبعون ضعفا فتغلى أدمغتهم ويشتد الكرب والازدحام حتى
يصير على كل قدم ألف قدم، ويكثر العرق، كما قال عليه الصلاة والسلام : "
أن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض
سبعين ذراعا وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس وآذانهم ". رواه مسلم.
وليس
هذا على عمومه لأن الناس يومئذ في العرق مختلفون على قدر ذنوبهم فمنهم من يأخذه
إلى كعبيه ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ومنهم من يأخذه إلى إبطيه ومنهم من يأخذه إلى
عنقه ومنهم من يغرق غرقا فيه، ومنهم من لايصيبه منه شئ ومنهم من هو في ظل العرش
ممن أراد الله إكرامهم، كما دلت على كل ذلك صحاح الأحاديث. ثم تقف الناس ما شاء
الله حتى يطول الوقوف ويشتد بهم الكرب شاخصين نحو السماء لا ينطقون قيل قدر أربعين
سنة من سنى الدنيا، فإذا طال انتظارهم طلبوا من يشفع لهم ليستريحوا من الوقوف
والكرب فيقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر نسأله أن يشفع لنا عند
ربنا، فيأتون آدم عليه الصلاة والسلام ويقولون له : أنت أبو البشر خلقك الله بيده
وأمر الملائكة بالسجود لك فاشفع لنا عند الله أن يصرفنا من هذا الموقف، فيقول : أن
الله تعالى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، وإنه كان منى
أمر أوجب خوفي منه فلا جراءة لى على الشفاعة عنده نفسى نفسي نفسى اذهبوا إلى نوح
يشفع لكم، فيذهبون إلى نوح عليه السلام ويقولون له : اشفع لنا عند الله أن يصرفنا
من هذا الموقف فأنت اصطفاك الله تعالى
وسماك الله عبدا شكورا، فيقول لهم مقالة آدم، ويدلهم علي إبراهيم عليه الصلاة
والسلام فيأتونه ويقولون له : أنت خليل الله فاشفع لنا عنده فيقول لهم مثل ذلك و
ويدلهم على عيسى عليه الصلاة والسلام فيأتونه ويقولون له : انت رسول الله وكلمته
ألقاها إلى مريم وروح منه فاشفع لنا عنده فيدلهم على سيدنا محمد صلى الله عليه
وسلم، فيأتونه ووجهه يضيئ على أهل الموقف فينادونه من دون منبره العالى : يا حبيب
رب العالمين وسيد الأنبياء والمرسلين قد عظم الأمر وجل الخطب وطال الوقوف واشتد
الكرب فاشفع لنا إلى ربك في فصل القضاء .
فمن
كان منا من أهل الجنة يؤمر به اليها ومن كان منا من أهل النار يؤمر به اليها الغوث
الغوث يامحمد فأنت صاحب الجاه المبعوث رحمة للعالمين فيقول صلى الله عليه وسلم :
" أنا لها إن شاء الله " ثم يقوم مقاما لايقومه أحد من الخلق غيره ويسجد
لله ويثني عليه ثناء يلهمه الله إياه في ذلك الوقت لاينطق به أحد من الخلق غيره،
فينادي : يا محمد ارفع رأسك واشفع تشفع وسل تعطه وقل يسمع لك ثم يرفع رأسه ويشفع
لأهل الموقف. في الانصراف، فيقول يارب مر بعبادك إلى الحساب فقد اشتد الكرب فيجاب
إلى ذلك فهذه أول الشفاعات لإراحة الناس من كرب الموقف، وهذا هو المقام المحمود
الذى يحمده فيه الأولون والأخرون.
وإنما
لم يلهموا المجئ لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من أول الأمر لإظهار فضله وشرفه
صلى الله عليه وسلم
(أنواع
الشفاعة)
واعلم
أن الشفاعة أنواع:
(الاولى) أعظمها الشفاعة في فصل القضاء والإراحة من طول
الموقف وهي مختصة به صلى الله عليه وسلم
(
الثانية ) الشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب قال النووي وهي مختصة به صلى الله عليه وسلم
(
الثالثة ) الشفاعة فيمن استحق النار أن لا يدخلها
(
الرابعة ) فيمن دخل النار من الموحدين أن يخرج منها ويشترك فيها الأنبياء
والملائكة والمؤمنون
(
الخامسة ) في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها
(
السادسة ) في تخفيف العذاب عمن استحق الخلود وهي مختصة به صلى الله عليه وسلم
(النار)
ومما
يجب إعتقاده أن النار حق وهي ثابتة بالكتاب والسنة قال تعالى : ياأيها الذين أمنوا
قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ) وقال صلى الله عليه وسلم : إن
ناركم هذه جزء من سبعين جزأ من نار حهنم، ولولاأنها أطفأت بالماء مرتين ما انتفعتم
بها" [ رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي وزاد ابن ماجه والحاكم وصححه
" وإنها لتدعو الله أن لايعيدها فيها " ] والمراد بها دار العذاب بجميع
طبقاتها وأن الله تعالى قد أوجدها فيما مضى وأعدها للكافرين خالدين فيها أبدا ،ولمن
شاء من العصاة لمدة أرادها الله تعالى لهم ثم يخرجون منها.
والحاصل
أن الفريق السالم من الوقوع في النار قسمان:
قسم
ناج من الأهوال وهذا هو المسلم الطائع السالم من السيئات، وقسم يحصل له أهوال كخدش
الكلاليب
وهذا
بعض العصاة من المسلمين الذين ترجحت حسناتهم على سيئاتهم .
والفريق
غير السالم من الوقوع فيها قسمان أيضا الكفار وهم مخلدون فيها والعصاة الذين ترجحت
سيئاتهم على حسناتهم وهم غير مخلدين فيها،
وهذه الدار أعاذنا الله منها وقودها الناس والحجارة وهي سبع طبقات أعلاها جهنم وهي
لمن يعذب على قدر ذنوبه من المؤمنين وتصير خرابا بخروجهم منها وتحتها لظى، وهي
لليهود، ثم الحطمة، وهي للنصارى ثم السعير وهي للصابئين وهم فرقة من اليهود
ازدادوا ضلالا ثم سقر وهي للمجوس وهم عباد النار ثم الجحيم وهي لعبدة الأصنام ثم
الهاوية وهي للمنافقين
(الجنة)
ومما
يجب إعتقاده أن الجنة حق وهي ثابتة بالكتاب والسنة (تلك الجنة التي نورث من عبادنا
من كان تقيا)، وقال صلى الله عليه وسلم :" نحن الآخرون الأولون يوم القيامة
ونحن أول من يدخل الجنة "وأن الله تعالى قد أوجدها فيما مضى كالنار وأعدها
للمؤمنين من عباده بمحض فضله يتنعمون فيها بأنواع نعيمها التى يقصرالعقل عن
إدراكها، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهي فوق السماء
السابعة كما أن النار تحت الأرض السابعة، وهي درجات أوسطها وأفضلها الفردوس وهي
أعلاها وسقفها عرش الرحمن ومنها تفجر أنهار الجنة، وللجنة أسماء : جنة المأوى وجنة
الخلد، وجنة عدن ودار السلام ودار الجلال ودار النعيم: واعلم أن الجنة هي الدار
المطهرة من الأقذار كالبول والغائط والحيض والنفاس والبصاق والمني، وإنما يكون
فضلات طعامهم جشاء ورشحا كرشح المسك وقد روي أن ترابها المسك والزعفران، وفي كل
قصر منها فرع من شجرة طوبى وتخرج من الثمر وغيره ما تشتهيه الأنفس وإذا أراد
الإنسان أن يأكل مثلا قال سبحانك اللهم فتوضع بين يديه المائدة وفيها جميع ما
يشتهى فإذا فرغ قال الحمد لله رب العالمين فترفع
(النظر
إلى الله)
ومما
يجب إعتقاده أن الله سبحانه وتعالى يكرم عباده المؤمنين في الآخرة بالنظر إلى وجهه
الكريم بالأبصار بعد دخول الجنة وقبله لكن بلا كيف ولا انحصار وذلك ثابتة بالكتاب
والسنة قال تعالى (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)، وقال صلى الله عليه وسلم : إنكم
سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر " أخرجه البخاري في صحيحه وغيره .
والتشبيه للرؤية في عدم الشك والخفاء لا للمرئي ودليل جواز وقوعه عقلا أن الرؤية
نوع كشف وعلم للمدرك بالمرئي يخلقه الله تعالى عند مقابلة الحاسة له فيجوز أن يحلق
هذا القدر بعينه من غير أن ينقص منه شئ من غير مقابلة لهذه الحاسة أصلا. كما كان
صلى الله عليه وسلم يرى من وراء ظهره وكما أن الحق تعالى يرانا من غير مقابلة
ولاجهة ومن المعلوم أن الرؤية نسبة خاصة بين راء ومرئي فإذا اقتضت عقلا كون أحدهما
في جهة اقتضت كون الأخر كذلك، فإذا ثبت عدم لزوم ذلك في أحدهما ثبث مثله في الآخر
وخرج بقولنا المؤمنين غيرهم من الكفار فإنهم لا يرونه يوم القيامة لقوله تعالى:
(كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) ولا في الجنة لعدم دخولهم فيها. ومن أراد استيفاء
هذا البحث فليرجع إلى ما كتبناه فيه من كتابنا " ضوء السراج في الإسراء
والمعراج.
خاتمة
نسأل
الله حسنها في بيان معنى الإيمان والإسلام والإحسان والدين والقضاء والقدر وغير
ذلك
أما
الإيمان فهو التصديق بالقلب اي الإذعان والقبول لما علم بالضرورة أي ظهر واشتهر
أنه من دين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بحيث تعلمه العامة كوحدانية الصانع
تعالى والنبوة والبعث والجزاء ووجوب الصلاة والزكاة والحج وحرمة الخمر والربا
والزنا ونحوها
ويكفي
الإيمان إجمالا فيما جاء إجمالا كالإيمان بغالب الملائكة والكتب والرسل، ويشترط
التفصيل فيما جاء تفصيلا كجبريل وميكائيل وموسى وعيسى والتورة والإنجيل حتى إن من
لم يصدق بواحد معين منها بعد إعلامه بأن ذلك في الكتاب أو السنة المتواترة فهو
كافر : فالإيمان بالله ورسوله هو تصديق الله تعالى فيما أخبر به على لسان رسوله، وتصديق
رسوله فيما بلغ عنه تعالى فهو عمل قلبي لا تعلق له باللسان والأركان إلا أن
التصديق لما كان أمرا باطنيا لا يطلع عليه لم يمكن إجراء أحكام الشرع عليه فجعل
الشارع العبارة عما في قلب الشخص بالإقرار أمارة على التصديق وشرطا لإجراء أحكام
الدنيا عليه من الصلاة خلفه والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين وعصمة الدم
والمال ونكاح المسلمة وغير ذلك كما قال عليه الصلاة والسلام " أمرت أن أقاتل
الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماؤهم وأموالهم إلا بحقها
وحسابهم على الله " أخرجه الشيخان، والمراد مع قوله محمد رسول الله .
والحاصل
أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط وعليه تجري أحكام الآخرة، والإقرار شرط لإجراء
الأحكام الدنيوية . فمن أقر بلسانه ولم يصدق بقلبه فهو مؤمن عندنا وكافر عند الله
تعالى من أهل النار، ومن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه من غير عذر فهو كافر عندنا
ومؤمن عند الله تعالى من أهل الجنة، ومن أتى بهما معا فهو مؤمن عندنا وعند الله
تعالى، وإن عدما معا فهو كافر عندنا وعند الله تعالى وقد اتفقوا على أنه متى طولب
المصدق بالإقرار لم يكن مؤمنا إلا إذا أتى به فإن لم يأت به كبرا فهو كافر معاند
وهذا معنى ما قالوا إن ترك العناد شرط في تحقق الإيمان،
وبالجملة
فتضم إلى التصديق بالقلب في تحقق الإيمان وإثباته أمور الإخلال بها إخلال بالإيمان
إتفاقا كالسجود للصنم وقتل نبي والإستخفاف به أو بالمصحف أو بالكعبة، فإذا وجد شئ
من ذلك كان الإيمان مفقودا ممن تلبس به عندنا وعندالله تعالى.
(
تنبيه )
في
حقيقة الايمان و مراتبه و الاسلام و الاحسان)
اختلف
في قبول الإيمان الزيادة والنقص ومذهب جمهور أهل السنة أنه يزيد بزيادة الطاعات
وينقص بنقصها وهو الذى يدل عليه القرآن العزيز والأحاديث الصحيحة، ومعنى زيادته
ونقصانه أن بعض أفراده يكون أقوى من بعض في الجزم كما أن الجزم يكون الواحد نصف
الإثنين أقوى منه بكون العالم حادثا قال تعالى: (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) وقال
تعال (ويزداد الذين آمنوا إيمانا) وقال تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم: (ولكن
ليطمئن قلبي) اي ليزداد طمأنينة وإلا فأصل الطنأنينة كان حاصلا وعليه يظهر أنه لا إيمان
كإيمان النبي صلى الله عليه وسلم،
وأن
إيمان أبي بكر أقوى من إيمان غيره من الأمة لماروي موقوفا ( مافضلكم أبو بكر بصلاة
ولا صيام وإنما فضلكم بشئ وقر في صدره) ( وسئل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هل
الإيمان يزيد وينقص ؟ قال نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه
النار)،
واختلف
هل يجوز للمؤمن أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله أولا ؟ والتحقيق أنه إن أريد
بالإيمان مجرد حصول المعنى فلا يجوز التعليق لأنه حاصل في الحال. وإن أريد مايترتب
عليه النحاة والثواب جاز إذ لاقطع بحصوله في الحال وعلى ذلك يحمل الخلاف بين
الفريقين كماذكره العلامة التفتازاني
(مراتيب
الإيمان)
(
واعلم ) أن الإيمان أربع مراتب :
(
الأول ) إيمان المنافقين بألسنتهم دون قلوبهم، وإنما ينفعهم في الدنيا لحفظ دمائهم
وصون أموالهم، وهم في الآخرة كما قال الله تعالى : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل
من النار).
(
الثانية ) إيمان عامة المؤمنين بقلوبهم وألسنتهم لكنهم لم يتخلقوا بمقتضاه،ولم
تظهر عليهم ثمرات اليقين فيدبرون مع الله ويخافون ويرجون غيره ويجترئون على مخالفة
أمره ونهيه.
(
الثالثة ) إيمان المقربين، وهم الذين غلب عليهم إستحضار عقائد الإيمان، فانطبعت
بذلك بواطنهم،وصارت بصائرهم كأنها تشاهد الأشياء كلها صادرة من عين القدرة الأزلية،
فظهرت عليهم ثمرات ذك، فلا يعولون على شئ سوى الله، ولا يخافون ولايرجون غيره،
لأنهم رأوا أن الخلق لا يملكون لأنفسهم نفعا ولاضرا، ولا يملكون موتا ولا حياة ولا
نشورا، ولا يحبون غيره لأنه لا محسن سواه، ولهذا قال الشيح أبوالحسن رضي الله عنه:
وهب لنا حقيقة الإيمان بك حتى لانخاف غيرك ولا نرجو غيرك ولانحب غيرك ولانعبد شيئا
سواك، " ولا يعترضون شيئا من أفعاله وأحكامه لأنه الحكيم ورأوا الآخرة محل
القرار فسعوا لها سعيها.
(
الرابعة ) إيمان أهل الفناء في التوحيد المستغرقين في المشاهدة، كما قال سيدي عبد
السلام : وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها
وقال: واجمع بيني وبينك وحل بيني وبينك. وهذا المقام يحصل وينقطع، ومنه قول بعضهم:
نظرت
ربي بعين قلبي * فقلت لا شك أنت أنت
وقول الشيخ ابو الحسن : إنا لننظر إلى الله
بعين الإيقان والإيمان، فأغنانا ذلك عن إقامة الدليل والبرهان، ونستدل به على
الخلق هل في الوجود شئ سوى الملك الحق ؟ فلا نراهم . وإن كان ولابد فنراهم كالهباء
في الهواء وإن فتشتهم لم تجدهم شيئا،
وفي
ذلك يقول قائلهم :
كبر
العيان على حتى أنه * صار اليقين من العيان توهما
ويقول
آخر:
مذ
عرفت الإله لم أر غيرا * وكذا الغير
عندنا ممنوع
مذ
تجمت ما خشيت افتراقا * فأنا
اليوم واصل مجموع
( واعلم ) أن الإيمان أفضل النعم على
الإطلاق وإذا علمت أن الله تعالى أكرمك بها وحبب إليك الإيمان وكره إليك الكفر
والفسوق والعصيان فضلا منه ونعمة بلا استحقاق لأحد عليه، وميزك عن كثير من أمثالك
بذلك فاقدر هذه النعمة قدرها وقم بواجب شكرها، فإنها أساس السلامة والكرامة.
أما
السلامة فيها تكون النجاة بعون الله من أهوال القبر والقيامة والميزان والصراط
والنار ومن الطرد والبعد والغضب. وأما الكرامة فيها تنال نعيم القبر من اتساعه
والأنيس الصالح فيه، وفتح باب إلى الجنة لدخول روحك اليه ونعيم الجنة من الحور
والقصور، وأنواع الملابس والمآكل والمشارب، والنظر لوجه الله الكريم. وقيل : لا
كلمة أحب إلى الله ولاأعظم عنده شكرا من قول العبد : الحمد لله الذى أنعم علينا
وهدانا للإسلام. وقد قال سيدنا يوسف : (توفني مسلما وألحقني بالصالحين) ولولم يكن في ذلك إلا النجاة من شدائد القيامة
التى يقول فيها الانبياء والرسل : نفسى نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسى ولوكان للرجل
عمل سبعين نبيا لظن أنه لايسلم لكان ذلك كافيا "
(حقيقة
الاسلام)
وأما
الإسلام " فهو الامتثال والانقياد لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مما
علم من الدين بالضرورة. والمراد بالامتثال الإقرار اللساني بجميع ما جاء به النبي
صلى الله عليه وسلم الشامل لثبوت الوحدانية لله تعالى، وثبوت الرسالة لسيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم ويحصل ذلك الإقرار بالنطق بالشهادتين فعلى كل حال مدار
الإسلام على النطق بالشهادتين ولا يكون
الإسلام منجيا إلا إذا انضم عليه الإذعان القلبي الذى هو الإيمان .
وبذا
تعلم أن الإسلام المنجي والإيمان متلازمان، ولكن يشترط في قبول الإسلام بهما النفي والإثبات فلا يكفي الله واحد ومحمد
رسوله مثلا، وهو قول الأكثر وعليه الشافعية وقيل لا يشترط ذلك بل المدار على مايدل
على الإقرار لله تعالى بالوحدانية، ولسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وهو
المعتمد عند المالكية، وعلى الأول يشترط أيضا الإتيان بلفظ أشهد بأن يقول: أشهد أن
لاإله إلا الله واشهد أن محمدا رسول الله
ويشترط أن يعرف المعنى ولوإجمالا، فلولقن أعجمي الشهادتين بالعربية فتلفظ بهما وهو
لا يعرف معناهما لم يحكم بإسلامه. وأن يرتب، فلوعكس في الشهادتين لم يصح إسلامه
على المعتمد وأن يوالى بينهما، فلو تراخت الثانية عن الأولى لم يصح إسلامه على المعتمد
أيضا،
وأن
يكون بالغا عاقلا، فلا يصح إسلام غيرهما إلا تبعا،
وأن
لا يظهر منه ما ينافي الانقياد، فلا يصح إسلام
الساجد لصنم في حال سجوده،
وأن
يكون مختارا فلا يصح إسلام المكره إلا إذا كان حربيا أو مرتدا وأن يقر بما أنكره
وأن يرجع عما استباحه إن كان كفره يجحد مجمع عليه أو إستباحة محرم كذلك.
(حقيقة الاحسان)
وأما
حقيقة الإحسان فهي أن يعبد العبد ربه كأنه يراه.
كما في حديث جبريل. وقال الجلال المحلى حقيقةالإحسان : مراقبة الله تعالى
في جميع العبادات الشاملة للإيمان والإسلام حتى تقع عبادات العبد كلها في حال
الكمال من الإخلاص وغيره.
(
واعلم ) أن علم العبد بأن الله تعالى يراه أكمل في التنزيه من شهوده هو للحق لأنه
لايشهده إلا بقدر دائرة عقله هو فقط، وتعالى الله عن ذلك، بخلاف علمه بأن الله
تعالى يراه، وإذا عبد العبد ربه كأنه يراه لم يجد الفعل إلا لله وحده وليس للعبد
فيه أثر، وإنما له حكم فيه لكونه محلا لبروزه من الجوارح لاغير، ومن شهد هذا
المشهد فهو الذي اخلص عمله لله، ولم يشرك فيه نفسه مع الله.
ثم
(أعلم) أن أهل مقام الإحسان لايتصور منهم معصية ماداموا في حضرة الإحسان، ومن هنا
عصم الأنبياء، وحفظ غيرهم من الأولياء لعكوفهم فيها،
أما
الأنبياء فهم على الدوام.
وأما
الأولياء ففي غالب الأحوال "
وأما
الدين " فهو والشرع والشريعة والملة
بمعنى واحد، وهو ما شرع الله تعالى على لسان نييه صلى الله عليه وسلم من الأحكام
" فإن قلت هل يكفر من سب الدين وينفسح نكاح زوجته ؟ قلت : نعم كما أن الحكم
كذلك فيمن أنكر شيئا مما علم من الدين بالضرورة " فإن قلت " ماالحكم إذا
تاب ورجع إلى الإسلام، هل ترجع زوجته إلى عصمته أولا ؟ قلت " إن كان شافعيا
ورجع قبل انقضاء العدة رجعت زوجته إلى عصمته، وإن كان مالكيا أو حنفيا لا ترجع إلا
بعقد ومهر جديدين، ولا فرق بين ارتداد الزوج والزوجة بل هما في الحكم السابق سواء
"
(معنى
القضاء و القدر)
وأما
القضاء فهو تعلق إرادة الله بالأشياء في الأزل
على
ما هي عليه فيمالا يزال على وفق علمه فهو من صفات الذات."
وأماالقدر
"فهو إيجاد الله الأشياء على قدر مخصوص ووجه معين أراده الله تعالى فهو من
صفات الأفعال. فالقضاء قديم والقدر حادث"
واعلم
"أنه لا نزاع بين أهل الحق في أن القضاء والقدر من العقائد التى يجب الإيمان
بها"
فيجب
أن تعتقد أن علمه تعالى وإرادته تعلقا في الأزل بالأشياء على ماهي عليه فيما
لايزال،
وأن
قدرته تعلقت بالأشياء فيما لايزال على وفق تعلق العلم والإرادة بها في الأزل. فلا
حادث خيرا كان أو شرا إلا وهو صادر عن إرادته وقدرته على وفق علمه. وقد أخرج
الترمذي عن جابر " لايؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحتى يعلم أن ما
أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه " وروي عن على كرم الله وجهه
أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لايُؤمِنُ عبدٌ حتّى يؤمنَ بأربعة :
يَشهَدُ أنْ لاَ إِلهَ إلااللهُ وأنِّي رَسُولُ اللهِ بَعَثَنِي بِالْحَقِّ
ويُؤْمِنُ بِالبَعْثِ بَعدَ الموتِ ،ويؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومرِّه) رواه
أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجه والحاكم. وربما هجس لبعض القاصرين أن من حجة
العبد أن يقول لله تعالى: لم تعذبني والكل فعلك؟ فهذه مردودة بأن الله تعالى يعلم
الأشياء كلها أزلا على ماهي عليه تفصيلا، وقبل وجود المخلوقات علم ما يختاره العبد
من خير أو شر إذا وجد فكتبه عليه،
( روي مسلم بسنده عن أبي الأسود الدؤلى
قال: قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما تعمل الناس اليوم ويكدحون فيه؟ أشئ قضى
عليهم ومضي عليهم من قدر ما سبق أوفيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت
الحجة عليهم ؟ فقلت : بل شئ قضى عليهم ومضى عليهم، قال : أفلا يكون ظلما؟
قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا وقلت : كل
شئ خلق الله وملك يده، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فقال لي : يرحمك الله إنى لم
أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك – أي لأمتحن عقلك وفهمك. وحزر من باب نصر وضرب.
وفي سنن أبي داود وابن ماجه واللفظ له عن
ابن الديلمي : قال : وقع في نفسى شئ من هذاالقدر خشيت أن يفسد علي ديني وأمري،
فأتيت أبي بن كعب فقلت : أبا المنذر إنه قد وقع في نفسى شئ من هذا القدر فخشيت على
ديني وأمري، فخذتني من ذلك بشئ لعل الله أن ينفعني به، فقال : لو أن الله عذب أهل
سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من
أعمالهم – اي لأن النجاة من العذاب إنما هي برحمته لا بالأعمال، فالرحمة خير منها
– ولو كان لك مثل جبل أحد ذهبا تنفقه في سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر، فتعلم
أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك. وأنك إن مت على غير هذا
دخلت النار، ولا عليك أن تأتي أخي عبد الله بن مسعود فتسأله، فأتيت عبد الله
فسألته، فذكر مثل ما قال أبي وقال لى: ولا عليك أن تأتي حذيفة، أتيت حذيفة فسألته،
فقال مثل ما قالا، وقال: إيت زيد بن ثابت
فاسأله ، فأتيت زيد بن ثابت فسألته، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم
لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولوكان لك مثل أحد ذهبا تنفقه في سبيل الله ما
قبله منك حتى تؤمن بالقدر كله فتعلم ان ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وماأخطأك لم يكن
ليصيبك، وأنك إن مت على غير هذا دخلت النار" . وللإمام الشافعي رضي الله :
فما شئت كان و إن
لم أشأ * وما
شئت إن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت
* ففي العلم يجري الفتى والمسن
فهذا هديت وهـذا خذـلت
* وهذا أعنت وذا لـن تـعن
وهذا شقي وهذا
سـعيـد * وهذا
قبيــح وهذا حسـن
وهذا قوي وهذا
ضـعيف * وكـل بأفعـاله مــرتهن
وقال النووي في شرح حديث " ما من نفس
منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار "
قال
الإمام أبوالمظفر السمعاني : سبيل معرفة هذاالباب التوقيف من الكتاب والسنة دون
محض القياس ومجرد العقول، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم
يبلغ شفاء النفس، ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب، لأن القدر سر من أسرار الله
تعالى التى ضربت من دونها الأستار، اختص
الله به وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لماعلمه من الحكمة، وواجبنا أن نقف حيث حد
لنا ولا نتجاوزه،
وقد
طوى الله تعالى علم القدر على العالم فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب اهـ فعليك
أن تفهم ما قررنا، وتعتقد ما ذكرنا، ولاتغتر بزخارف الضالين والمضلين وإلاهلكت مع
الهالكين (ولله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) (ومن يهد الله فماله من مضل) (ومن
يضلل فماله من هاد).
(علامات
السعادة و الشقاوة)
ثم
اعلم أن السعيد هو من علم الله تعالى في الأزل موته على الإسلام وإن تقدم منه كفر،
والشقي من علم الله تعالى في الأزل موته على الكفر وإن تقدم منه إسلام: فالسعادة
الموت على الإسلام ،والشقاء الموت على الكفر المقدران للعبد في الأزل فليس كل من
السعادة والشقاوة باعتبار الوصف القائم به في الحال من الإسلام في الأول والكفر في
الثاني، بل باعتبار ما سبق أزلا في علمه تعالى كما علمت، وعلى ذلك فلا يتصور في السعيد
أن يشقي، ولافي الشقي أن يسعد، فلا يتحول السعيد والشقي عما ختم له، فالسعيد لا
ينقلب شقيا وبالعكس، وإلا لزم انقلاب العلم جهلا، وهو بديهي الاستحال، فالخاتمة
تدل على السابقة فإن ختم له بالإسلام دل على أنه في الأزل كان من السعداء وإن تقدم
منه كفر وإن ختم له بالكفر والعياذ بالله دل على أنه في الأزل كان من الأشقياء وإن
تقدم منه إسلام ولذا قال بعضهم:
إذا
المرء لم يخلق سعيدا تخلفت *
ظنـون
مربيـه وخـاب المـؤمل
فموسي
الذى رباه جبريل كافر *
وموسى
الذى رباه فرعون مرسل
وقد
يسر الله سبحانه وتعالى كلا من السعيد والشقى لما خلق له فيسر السعيد بفضله
للإيمان والطاعات، ويسر الشقي بعدله للكفر والمعاصي قال تعالى : (فأما من أعطى
واتقى * وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى *
فسنيسره للعسرى*)
وأخرج
مسلم عن جابر أن سراقة بن مالك بن جعشم قال : يا رسول الله " بين لنا ديننا
كأنا خلقنا الآن، فيم العمل أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل
؟ قال: فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل
ميسر لما خلق له وكل عامل بعمله "
وأما
قوله تعالى : ( كل يوم هو في شأن ) فالمراد شؤون لا يبتديها.
ذكر
صاحب الكشاف أن عبد الله بن طاهر قال للحسين بن الفضل: أشكل على قوله تعالى : ( كل
يوم هو في شأن ) مع ما صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، فقال الحسين :
هي شؤون يبديها أي يظهرها على وفق قضائه في الأزل، لاشؤون يبتديها أي ينشئها الان،
لأن التقدير سابق فقام عبد الله وقبل رأس الحسين.
وذكر
بعض العلماء أن ابن الشجري جلس يوما على كرسي وعظه فذكر الأية فوقف رجل على رأسه
وقال: فما يفعل ربك الآن ؟ فسكت وبات مهموما، فرأى المصطفى صلى الله عليه وسلم،
فقال له : إن السائل هو الخضر وسيعود إليك فقل له شؤون يبديها ولا يبتديها يخفض
أقواما ويرفع اخرين فأتاه فسأله فأجاب فقال له : صل على من علمك. وهذا آخر ما
أردنا ايراده في هذا القسم والحمد لله رب العالمين.
فهارس الكتاب
رقم موضوع صفحة
1.
مقدمة
في الدعوة إلى الله ورسوله 7
2.
فيما تجب معرفته علي كل مكلف من العقائد الدينية 13
3.
المقدمة في بيان حكم العقلي 14
4. في الإلهيات،
وهي المسائل التى يبحث فيها عما يتعلق بالإله 16
5.
الصفة
الواجبة له تعالى 17
6.
الصفة
المستحيلة عليه تعالى 18
7.
الصفة
الجائز في حقه تعالى 41
8.
الباب
الثاني في النبوات
(وهي المسائل التى
يبحث فيها عما يتعلق بالأنبياء) 44
9.
الصفة
الواجبة في حقهم عليهم الصلاة و السلام 46
10.
الصفة
الجائزة في حقهم عليهم الصلاة والسلام، 51
11.
فصل
في بيان ثبوت رسالة محمد 54
12.
ارسال
النبي رحمة للعالمين 60
13.
فصل
في وجوب الايمان بالكتب 85
14.
الباب
الثالث في السمعيات 87
15.
خاتمة
نسأل الله حسنها في بيان معنى 140
16.
حقيقة
الايمان و مراتبه و الاسلام و الاحسان 142
تنوير القلوب
فى معاملة علام
الغيوب
بحث فى العقيدة
الإسلامية
طبعة جديدة مفصلة
اعداد وترتيب: الحاج أحمد وزير علي
عنوان: معهد منبع المعارف الإسلامي
شارع إمام بونجول رقم 83 ديناير جومبانج
رقم البريد 61416 رقم الهاتف: (0321) 864577
من
منشوراتنا
1.
الآجرومية
في ثوبها الجديد (منهج جديد)
2.
تعليم
المتعلم (طبعة جدبدة محققة)
3.
الاستعداد
ليوم المعاد (طبعة جدبدة ميسرة)
4.
لقمان
الحكيم و حكمه ( طبعة جدبدة و مع الترجمة إلي الاندونيسية)
5.
تنوير
القلوب، بحث في العقيدة الاسلامية (طبعة مفصلة)
6.
قامع
الطغيان (طبعة جدبدة مختصرة و مزيدة)
7.
الأحاديث
القدسية للإمام الغزالي
8.
مقدمة
في علوم التفسير (شرح مختصرة للمنظومة الزمزامي)
9.
مختصر
الكبائر (طبعة جديدة)
10.
علج
نفسك بالقرآن (طبعة جديدة مع الترجمة إلي الاندونيسية)
11.
الأحاديث
المختارة في تهذيب النفوس (طبعة جديدة مستقلة ميسرة)
12.
القواعد
الصرفية الميسرة (منهج جديد ميسر)
13.
الأدب
للغزالي
14.
الثقافة
الاسلامية (بحث في الفكر الاسلامي و المذاهب الهدامة)
15.
تفسير
يس (كبعة جديدة ميسرة)
16.
تدريبات
النحو (أسئلة ألفية ابن مالك)
17.
شرح
جديد لمنظومة البيقونية.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ
BalasHapus